الطقوس الدينية - الاجتماعية بين نقد المثقفين وتبرير المتشرّعين
لا تخلو سنة من السنوات من وجود مادة دسمة يتراشق فيها المثقفون والمتشرعون التهم فيما بينهم، وأغلب تلك الموارد تكون عادة في دائرة الممارسات أو الشعائر أو المقدسات لدى العوام، فينبري المثقفون لنقد هذه الظاهرة أو تلك خوفاً على (الإسلام المحمدي الأصيل) من التشويه، وما هي إلا لحظات حتى ترى صرخات المتشرعين تتعالى ضد هؤلاء المنتقدين خوفاً على (الإسلام المحمدي الأصيل) من التمييع والضياع وذوبان الهوية.
إن هذه الظاهرة التي تتكرر كثيراً عند بروز طقس ديني أو ممارسة اجتماعية تتسم بطابع الشعائر – والذي عادة ما يكون له علاقة بأحد المعصومين أو من يتفرع عنهم-، فنرى المثقفين يخضعون هذه الممارسة للأدوات النقدية العلمية والتاريخية، ومحاولة تنزيه الدين من هذه الممارسات ونفي علاقتها به.
في الطرف المقابل نرى المتشرعين يقومون بالتبرير عادة لمثل هذه الممارسات بدعوى مساسها بالمعصومين مما جعلها تستقي هذه القداسة والكرامة، وعدم وجود ما يمنع من ممارستها، بناء على أصالة البراءة أو المسكوت عنه أو (من بلغ) أو أصالة الإباحة أو التسامح في أدلة السنن.
وقد شهد المجتمع الكثير من القضايا التي تراشق فيها الطرفان النقد والتهم بالضلال والإضلال تارة أو بالانحراف عن المذهب والمروق منه، أو بممارسة الكهنوتية الدينية أو رعاية التخلف و(الاستحمارية).. إلخ من قائمة التهم التي لا تنتهي بين الطرفين. ومن تلك القضايا مثلاً: جدلية شعائرية التطبير والتبرع بالدم، الإطعام في المجالس الحسينية، مصارف الوقف وفاعليته، التبرك بما لم يثبت عن المعصوم صحته، سفرة أم البنين، الاستخارة، اللطم بالكيفية المتعارفة حالياً، الملاحظات وعلامات الاستفهام التاريخية في سيرة المعصومين ، إلى الكثير من القائمة التي لا تنتهي.
ولعل أصل الإشكالية التي تحكم العلاقة بين الطرفين عادة هو فقدان اللغة المشتركة بينهما، والتعميم في الحكم عادة، ومحاكمة النوايا والمحاسبة عليها، وتلبس دور الوكالة عن الله في الحكم على هذا بتحريف دين الله وإدخال ما ليس منه فيه باسم الدين، أو الحكم على ذاك بالعمالة وتطبيق أجندة خارجية لتمييع المذهب والضلال والانحراف العقدي، وبعض التُهم قد تصل إلى حد الإخراج من مذهب التشيّع بسبب إنكار أو التشكيك في أمورٍ ليست من ثوابت التشيّع – حسب التنظير الكلامي والعقائدي المعروف-.
لنأخذ مثالاً حياً وواقعياً على هذا الأمر، وهو سفرة أم البنين ، هذه المرأة الصالحة التي ضحت بأولادها الأربعة في معركة كربلاء فداءً لإمامهم الحسين ، والتي ربّت الإمامين الحسنين بعد استشهاد أمهما الزهراء .
فحينما تسمع من الأخوة المثقفين انتقادهم لهذه الظاهرة نراهم – حقيقة – ينتقدون ما يستتبع عادة هذه الممارسة من إسراف غير مبرر، وصرف مبالغ تكفي لإقامة مشاريع خيرية تُهدى لروح أم البنين بدلاً من هدرها بهذه الطريقة، إضافة لبعض الخرافات التي تسمعها من هُنا وهناك دون مستند ديني وشرعي – هذا إذا تجاوزنا نقاشهم في أصل مشروعية هذا العمل-.
هنا نلاحظ أن المتشرعين يهاجمون المثقفين بعدم فهمهم لحيثيات هذا العمل وإباحته في الأصل، ويرمون المثقفين بتهمة التشكيك في فضل أم البنين والكرامات التي تحصل منها، بل قد يصل الأمر إلى استجداء الفتاوى من بعض المراجع وليّ رقاب الأسئلة لتصب في صالح السائل بأن المنكر لهذه الأمور منكرٌ لثابت من ثوابت المذهب.
في الحقيقة لن أدخل في أصل موضوع سفرة أم البنين ورأيي فيها، ولكن يُلاحظ معي الأخوة الكرام ويتفقون معي بأن الطرفين أمسكا بجزء من المشكلة وعمموها، فالمثقف حين ينتقد بعض تفاصيل هذه الظاهرة ويتقدم ببعض الاقتراحات، يُعمم عادة في الحكم ويهاجم بطريقة استفزازية تجعل المجتمع يقف موقف المتشنّج، مما يسهّل زرع بذرة التشدد والممانعة، ومن وجه آخر ترى المتشرعين يهاجمون المثقفين وكأنهم انتقدوا أصل الظاهرة ونفوها عن الوجود، بينما الواقع يقول عكس ذلك، فهم إنما انتقدوا (ما يستتبع هذه الممارسة من مخالفات شرعية)، والأمر الآخر - والذي يؤسف له في الحقيقة- هو الخلط العجيب بين الممارسة تلك، أو لنقل بين سفرة أم البنين كطقس عبادي يمارسه ذوي الحاجات لنيل مرادهم بما فيه من سلبيات وإيجابيات، وبين ذات أم البنين ، فيُصبغ على هذه الشعيرة التقديس، ثبتت أم لم تثبت، بينما هي لا تتعدى العلاقة الاسمية بين الشعيرة وصاحبها، وأن من انتقد الممارسة لم ينتقد الذات.
ولا أبرر للمثقفين هنا أو أدافع عنهم، بل عليهم مثل الذي لهم، فتراهم يهاجمون المجتمع في بعض ممارساته التي يرونها خاطئة، ويقترحون المقترحات والبدائل، والتي تتسم عادة بالمثالية وعدم الواقعية، فنادراً ما نرى المثقفين قاموا بتقديم و (تطبيق) البديل الصحيح الذي يرونه على أرض الواقع، فمثلاً – في نفس سياق سفرة أم البنين – لم نرهم قاموا بإقامة السفرة البديلة التي جمعوا فيها أموالاً لصالح المجتمع، أو أضافوا لمساتهم الثقافية والتثقيفية بنشر الوعي والأحكام الفقهية لدى الحضور، فلم يقوموا بمثل هذا الأمر، وإنما هي مساجلات ومقترحات يراها بعض المتابعين من الوسط الاجتماعي تخرج من أناسٍ ينظّرون من برجٍ عاجي، ولا يفلحون إلا في (بيع الكلام) دون أي ممارسة واقعية بديلة لما ينتقدونه.
لعل أفضل حل هو إيجاد اللغة المشتركة بين الطرفين، والحوار بالعقل والدين والعُرف المعتدل، والابتعاد عن محاسبة النوايا وكيل التهم واستجدائها من هُنا وهناك، ووضع الأمور في نصابها الصحيح والنقاش بعقلانية ودقة وحيادية، بدون تعميم أو تعمية، والنظر إلى المصلحة العليا للمجتمع كما يقررها الدين والعرف المعتدل لا المتخلف.
مِسك: