حماة الشريعة ودُعاة القطيعة
يقول سماحة السيد محمد تقي المدرسي في إحدى محاضراته: «علينا أن نعلم يا أخواني بأن الأعداء أيضا يتربصون بنا، فهم يبحثون عن القيادات الفذة والشخصيات البارزة، وحينها إما أن يغتالونهم كأشخاص وإما يغتالونهم كشخصيات، فما إن يبرز فينا إنسان يملك القدرة على القيادة أو يملك القدرة على البيان، يملك الإيمان والصدق والعلم والإدارة والكفاءة إلا وتلوك الألسن بالانتقادات حوله، لماذا؟».
ويضيف كذلك: «قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان العداء للمسلمين وللطائفة الشيعية عداءً تقليدياً، أي متوارثاً من بعض الناس ومن تراكمات التاريخ، ولكن بعدما انتصـرت الثورة جُدد هذا العداء، لأن الأعداء عرفوا أن الخطر الكامن عليهم وعلى سيادتهم وطغيانهم وبغيهم إنما يكمن في هذه الطائفة، وفي قياداتها وعلمائها».انطلاقاً من كلمة سماحة السيد المدرسي بدأت أنظر للواقع الشيعي في مجتمعنا بنظرةٍ فيها الكثير من الاستغراب والتعجّب!
تخيلوا معي هذا المشهد:
أحد علماء الدين الراسخين في مجتمعنا، قام بخدمات جليلة في المجتمع و في مجال خدمة الناس دون منٍّ ولا أذى، تربّينا تحت منبره منذ نعومةِ أظفارنا، أمّ المصلين جماعةً ولا يفتأ في دبر كل صلاة بإلقاء كلمة أو موعظة أو طرح مشكلة اجتماعية تشهدها الساحة على الحضور للوصول إلى حلٍّ مشترك، درس في الحوزة العلمية على يد آيات الله العظام ودرّس الكثير من الفضلاء، له باع في التحقيق والتأليف، قام بحل الكثير من المشاكل التي كادت تفجّر الساحة الاجتماعية في منطقته وسعى في تسوية الكثير من الخلافات بين الشارع الشيعي والسلطة للوصول إلى حلٍّ وسط يُرضي الطرفين..
إلى الكثير من الأعمال والإنجازات التي شهدها المجتمع والناس بمختلف طبقاتهم من مثقفين ومتدينين وأكاديميين وحوزويين، وكلٌ يقول بأن جهده مشهور مشكور.
الغريب في الأمر أن يأتي طالبٌ من طلبة العلوم الدينية ممن لم يُكمل المقدمات، ولنقل دخل مرحلة السطوح المتوسطة، وقد يكون ممن تربّى على يد هذا العالم الجليل وتشجّع بسببه لدخول مضمار الدراسة الحوزوية، فيكيل لهذا العالم سيلاً من التُهم التي لها بداية وليس لها نهاية، وتراه (لا شغلة ولا مشغلة) يتنقل من مجلس إلى مجلس، ومن ديوانية إلى ديوانية، جاهداً لإسقاط هذا العالم الجليل من أعين الناس، ومسح السجل الحافل بالإنجازات التي قام بها بسبب اختلاف في وجهة النظر، أو تبنيه رأياً مخالفاً لبعض المراجع «أدام الله ظلهم على رؤوسنا»، فيعمل جاهداً على اغتيال شخصية هذا العالم بتحريكٍ من بعض المنافسين وأصحاب النفوس المريضة، دون أي خجل ودون أي وعي.
إن المزايدات على من يمتلك الحقيقة المطلقة لهو من أوضح مصاديق الجهل المركب، فكلنا نعلم بأن هناك ثوابت دينية، وثوابت مذهبية، ومسلمات في العقيدة، ومن خالف في بعض الجزئيات البسيطة التي لا تتعدى كونها وجهة نظرٍ من رجل دين خاض غمار الدرس الحوزوي والتحقيق العلمي، فإنه لم يخرج من الدين ويمرق من المذهب الشريف!. والكل يُجمع بأن آراء العلماء واجتهاداتهم – ما عدا الثوابت- ليست رأي الدين، وإنما هي رأيٌ (في) الدين – كما يقول الدكتورعبدالله الغذامي -، ومذهبنا في هذه الناحية واضح ومعروف.
من أشد ما يؤلمني – حقيقة – هو أن يُنسف جميع ما عمله هذا العالم من خدمات جليلة للناس - وفي الحديث عن رسول الله : «خير الناس أنفعهم للناس» - بتحركات مشبوهة من هُنا وهناك لا تخدم المجتمع أبداً، والواقع يشهد بأن هذه المهاترات لم تخدم المؤمنين أبداً، ولم توفر لقمة عيش للفقراء أو دفتراً واحداً لطالبٍ فقير، وإنما شقت عصا الوحدة والألفة، وانشغلنا عن الاهتمام بشبابنا الذين يجلسون على جنبات الطرقات نهبة للطامعين وباعة المخدرات والمنحرفين، انشغلنا عنهم بأعلمية فلان أو فلان، أو صحة هذا الحديث من عدمه، وهل نظرية وحدة الوجود شركية أم إيمانية؟،
وهل تجوز الصلاة خلف من يرى هذا الرأي أم لا؟
ما هذه المهزلة؟
وسؤالي لهذا وأمثاله من (صائدي العلماء العاملين): ماذا قدمت أنت من مشاريع للمجتمع وللمذهب وللحركة العلمية والثقافية في المنطقة؟ كم كتاباً ألفت وأثريت به الساحة العلمية الشيعية؟
لقد لاحظت بأن الكثير هذه الشاكلة لا همّ لهم سوى إشغال الساحة بهذه المهاترات التي لا ناقة فيها للفلاح والعامل ولا جمل، متنقلين من مجلس إلى مجلس، ومن مأدبة إلى مأدبة، « بلغنا أن فلانا قال، وبأن المرجع الفلاني أفتى في فلان بكذا، احذروا من فلان، الفكر الفلاني نجس يجب تطهيره بالماء سبع مرات إحداهن بالتراب! »، ولو تحرك بمثل هذا الجهد في حل قضايانا الأخلاقية والمعيشية والاجتماعية لكنّا بألف ألف خير.
جلست في أحد المجالس الذي كان أغلب حضوره من كبار السن، وذوي الثقافة والتعليم المتدني، فتحدث بعض هؤلاء السلبيين حول بعض الطلبة في المنطقة، ثم تحول الأمر إلى وكلاء بعض المراجع، ثم المجتهدين، حتى تحول الأمر فجأة إلى نقد وتشهير بالمراجع الكبار في قم المقدسة والنجف الأشرف وكربلاء، حقيقة اقشعرّ بدني لهذا الأمر، فخرجتُ أنا ومن معي من هذا المجلس المشؤوم متذكرين قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِر ِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ ، ولا شك عندي بأن العلماء الذين هم كالنجوم الساطعة علامات وآياتٌ من آيات الله تبارك وتعالى، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ .
لماذا يُشغل هؤلاء الناس الساحة الشيعية بتسقيط فلان والتشهير بفلان، وأين عنهم من قبل؟
هل بعدما لمع نجمهم – كما هو حال السيد كمال الحيدري-؟
وأنا متأكد بأن الإمام المغيّب السيد موسى الصدر «فرّج الله عنه» -الذي له الفضل الكبير على الشيعة في لبنان وغيرها- لوكان موجوداً بيننا لناله من التسقيط والتضليل ما نال غيره، ولنا بالسيد حسن نصر الله خير شاهد، فالعدو من أمامه وطلبتنا ومشائخنا من خلفه.
وختاماً وللتنويه: هذا الكلام الذي قلته لا أقصد بها خطاً دون خط، أو توجهاً دون الآخر، هذه الحالة العامة منتشرة بيننا، وبدلاً من الانشغال بمن أقصد، أتمنى أن ينشغل الأخوة بما أقصد.
مسك:
ذات يومٍ خرج الحاج حسين من منزله قاصداً مزرعته الصغيرة، جلس فيها من الصباح إلى المساء يبذر في الحقل «أصالة الوجود واعتبارية الماهية»، وسقاها بـ «حقيقة شكل البراق الذي عُرج به النبي "، وانتظر حتى جنى من عذق «بسط وقبض التجربة النبوية» ووضع ما جناه في سلة «العرفاء هم متصوفة الشيعة وكافرون»، ثم عاد إلى منزله وقدّم لأبناءه قرصاً من خبز «ضال ومضل».
هنيئاً مريئاً لكم كفافكم يا أولادي.