سامح الله الفلافل
في إحدى مرات زيارتي لمسقط رأسي الأحساء حفظها الله و رعاها ، شعرتُ بشوقٍ لوجبات الطفولة التي لا تحمل أيَّ تكلّفٍ و لا تقبل فُحش الأسعار ، فشهيتي قادتني لكافيتيريا صغيرة مشهورة ببيع الفلافل في حيٍ شعبيٍ قديمٍ من أحياء الأحساء التي خلّدت ذكرياتنا و نقشت على جدرانها مشاغباتنا ، فدخلتُ المحل محدّقاً في حبَّات الفلافل الذهبية التي تعوم في المقلاة الضخمة الواقعة أول المحل ، فوصلت للمكان المخصص للطلبات كي أبلغهم بطلبي ، و ما هي إلا دقائقٌ معدودة ، إلَّا و التفتُّ على صوت صراخٍ غير مألوفٍ ، و إذا بي أرى شاباً دخل المحل و هو في وضعٍ يُرثى له ، بل الرثاءُ قليلٌ في حقه ، يترنَّح يُمنةً و يسرةً و كأنه سعفة في مَهَبّ الريح ، يصرخ بهستيرية و يمشي بصعوبة و كأن قدميه عاجزتين عن حمله ، و أراه يخطو بصعوبةٍ نحوي و اللعاب يهطل من فمه بغزارة ، عيناه محولَّتان ، و أوداجه منتفخة ، لسانه ثقيلٌ جداً و لم أفهم بماذا يلجلج .
اقتربَ مني و حدَّقتُ فيه فشعرتُ أنني أعرف هذه الملامح المُنهَكة ، حاولتُ أنْ أستنجد بذاكرتي علَّها تسعفني في تذكُّر الشخص الذي أمامي فشعرتُ أنني دنوتُ منه ، أ معقول أن يكون هذا إبراهيم زميل الدراسة في المرحلة المتوسطة ؟!..
لا ، يستحيل أن يكون هو ، ربما شبيهٌ له ، و بعد إمعان النظر و التفحُّص تأكدت بأنه هو ، يا للتعاسة و يا للخيبة ، ماذا حلَّ بك يا صديقي ؟!.
حاوَلَ مخاطبتي بلسانه الثقيل و اللعاب لا يزال يهطل من فمهِ بغزارةٍ ، أومَأَ لي بعينيه التي احولّت ، لكني لم أفهم ما يريد إيصاله إليّ ، و بإشارة يده التي يرفعها بصعوبة فهمت أنه يحتاج مساعدة مادية ، مددتُ يدي إلى جيبي و أنا في غاية الذهول مما أرى فأخرجت حفنة ريالاتٍ لا أعلم كم هي فأوقعتها في جيبه العلوي ، و في العادة يشعر الإنسان بسعادةٍ في هذه المواقف عندما يُقدِّم المساعدة لأي إنسان ، لكن شعوري هذه المرة كان عكسياً ، لأن هذه اللحظات جعلتني أشعر بحاجة و سقم هذا الرجل الذي جمعتني به أروع الذكريات .
لا زلت غير مستوعبٍ أنه هو ، و لا زلت أطرح الأسئلة على نفسي الحزينة ، هل هذا هو إبراهيم الذي عُرِف بخفة ظلّه و كانت البسمة لا تفارق محيَّاه ؟!..
هل هذا إبراهيم الذي إذا غاب عن الفصل تُخيّم عليه الكآبة و يكسوه الملل ، هل هذا إبراهيم الذي كان يجلس بجانبي في الفصل و نتبادل أشرطة الأغاني قبل مجيء الأستاذ كل صباح ؟! كم تمنيت أن أتلاشى حينها و لا أراه هكذا .
في الحقيقة ، إن ما رأيته في هذا الرجل صدمني و أحزنني ، و في نفس الوقت دفعني للسؤال عنه و عن الأسباب التي أوصلته لهذه الحال ، فقد ظننت في البداية أنه أصيب بمرضٍ في المخ أو الأعصاب ، و لكن بعد السؤال و التحرّي بلغني أنه وقع في براثن المخدرات التي أذهبت بعقله و صحته ، فقد أدمن الأقراص المخدرة .
طبعاً هذه النقطة جعلت هذا الرجل يرتكز في ذاكرتي كارتكاز الرمح في الأرض ، و صار لا يفارق خيالي ، و بعد بضعة أشهرٍ عدتُ للسؤال عنه مجدداً فبلغني خبر وفاته .
يا لهذه الفلافل التي جَرَّت عَلَيَّ الآهات و في النهاية لم آكلها ، رحمك الله يا صديق الماضي رحمة واسعة و أسكنك فسيح جناته ، كم كنتَ رجلاً طيباً .