التسابق
كما أن الحج هو عبارة عن محاولة جادة لإعادة صياغة الأولويات الفكرية والحياتية للفرد الحاج، هو كذلك على مستوى المجتمعات الإسلامية التي تسعى جادة لإعادة صياغة أولوياتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية. قبل الحج هناك تسابق إلى الحج، ثم يتبعه تسابق بين الحجاج في الحج. تسابق ظاهري لتأدية المناسك وهو مذموم دينياً، وتسابق خفي يبتغي مرضاة الله وهو مندوب شرعاً.
هناك تشابه بين تسابق الحجاج على تأدية المناسك وتسابق الناس في مناحي الحياة المختلفة. التسابق والتنافس حالة طبيعية بين الناس للوصول للأفضل والأسمى والأرقى من أمور الدنيا، والواصل هو المتميز عن أقرانه. منذ الطفولة يتسابق الأطفال بطريقتهم الخاصة في الروضة، ثم المدرسة حتى الجامعة والتخرج، ويستمر الحال مع المرء حتى يتسابق على التدرج في السلم الوظيفي، أو في الحياة العملية كالتجارة، أو نحو قيادة النشاطات الاجتماعية والدينية.
وهناك أصحاب كل حرفة الذين يتسابقون في ميدان حرفتهم للوصول للأفضل والأحسن، ولكن، هل جميعهم يوفقون للنجاح والتفوق وبالتالي التميز في مجالهم؟ بالطبع لا! لماذا؟ فمن بين ألف ميكانيكي قد نجد عشرة متميزين، لأن هناك من يمتلكون نفساً قصيراً في السباقات الرياضية والجري وهؤلاء لا يصلون للفوز أو التميز، وهناك من لديهم نفس طويل يمكنهم من دخول سباق المسافات الطويلة.
الفائزون المتميزون في الألعاب الرياضية لا يحققون الأرقام القياسية بضربة حظ، وإنما بجهد متواصل من التدريبات التي تراكم التجربة وتطورها. كذلك هم الفائزون والمتميزون في ميادين الحياة المختلفة وعلى جميع مستويات التنافس، مثل التنافس بين الأفراد، وبين أطياف المجتمع الواحد، و بين الدول، وبين الأقاليم، وبين الأمم. وعلى جميع هذه المستويات هناك متميزون مثل: د. أحمد زويل، أنشتاين في العلوم، بنك الفقراء في الاقتصاد، نيلسون مانديلا والإمام الخميني في السياسة، المتنبي وعمر الخيام ونجيب محفوظ في الأدب، د.علي حرب ود.علي شريعتي في الثقافة والفكر، بيل غيتس في التكنولوجيا...هؤلاء تميزوا وفازوا بالتعلم المستمر ومتابعة الجديد في علمهم ومجالهم وبالجهد المتواصل وبتراكم التجربة وبالصبر. ويتمكن المرء مراجعة كتاب جينس للأرقام القياسية كي يلاحظ المتميزين في الميادين المختلفة.
الدين الإسلامي يشجع على أصل التسابق في الخير والمعروف، والآيات والروايات كثيرة، منها: " السابقون السابقون, أولئك المقربون" وقوله تعالى:"سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة..." وقوله: "فاستبقوا الخيرات" "ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين" و" أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون". وقال الإمام علي 
: "فسابقُوا- رحمكُمُ اللهُ- إلى منازلكُمُ التي أُمرتُم أن تعُمُروها، والتي رغبتُم فيها، ودُعيتُم إليها" ميزان الحكمة: 4/1669/8258.
في الحج، وكما في سباقات الدنيا، حيث الإنسان بحاجة إلى التدريب المكثف والتعليم والجد وتراكم التجربة، هو أيضاً في سباقاته إلى رضا الله والجنة، بحاجة إلى اختيار الأحسن من بين الخيارات الحسنة، واختيار الوسيلة الأسلم من بين الأمور السليمة، وهذا أحد معاني قول الله تعالى "أحسنكم عملا"، قال الإمام الصادق ع في قوله تعالى" ليبلوكم أيكم أحسنُ عملاً": "ليس يعني أكثركُم عملاً، ولكن أصوبكم عملاً، وإنما لإصابةُ خشية الله تعالى والنيةُ الصادقةُ الحسنةُ" ميزان الحكمة: 7/2826/ 14327عن البحار:70/250/26. يقول الإمام علي ع: " إن الدنيا أدَبَرت وآذَنَت بوداعِ، وإن الآخرةَ قد أقَبلَت وأشَرفَت باطِلاعٍ، ألا وإن اليومَ المضمارُ، وغداً السِباقُ، والسَبقةَ الجنةُ" ميزان الحكمة: 4/1669/ 8254.
