وأخيراً ... ولد (حافز)
بعد أيام قليلة يتوقع أن تصرف معونات للعاطلين عن العمل في وطننا الحبيب المملكة العربية السعودية.
ورغم الجدل الواسع والتوجسات والعيوب والانتقادات، التي تلاحق هذا المولود الجديد، إلا أنني أقول: "الحمد لله"، والحمد لله على كل حالٍ أيضاً.
لقد كنا قبل سنوات نسمع عن دول تقدم معونة للعاطلين عن العمل، وكنت أحلم بذلك اليوم الذي ستلحق فيه بلادنا الحبيبة بهذا الركب - وكنت أتمنى أن لا نتأخر كثيراً -. وذلك لأنني أعلم أن المجتمع آلة، ولا يمكن فصل أجزائها عن بعضها، فإهمال أي جزءٍ منها سيؤدي لخللٍ ما في وظائفها. وقد يؤدي ذلك الخلل في النهاية لدمارها بالكامل. فالعاطلون خصوصاً من ذوي الحاجة والعوز والفاقة الشديدة، وهم بالطبع غالباً من العاطلين عن العمل، جزء حيوي مهم من هذا المجتمع، توجب العقلانية في هذا العصر علينا جميعاً، الحرص عليهم والعناية بهم، كي لا تولد لنا في النهاية من خلال عوزهم وفاقتهم، بؤر فاسدة تدمر المجتمع، عبر بوابات (الجريمة) المعروفة. وهنا فكمال وصلاح المجتمع، لن يكون إلا بصلاح وكمال أوضاع كل أعضاء المجتمع وحمايتهم، ومنهم ذوي الفقر والحاجة من العاطلين عن العمل. ومن هنا تتولد المسؤولية بشكلها الخطير، بعد تولدها من القيم الإنسانية.
نعم، في الدولة الحديثة، لا يمكن تجاهل الفقراء والمحرومين من العاطلين عن العمل. كان ذلك في الماضي شيءً من النقص والعجز القسري. وكان يمكن فهمه وتحمله في سياقه الطبيعي. وقد حدث في دولة الإمام علي ، أن بقيت عائلة شهيد من جيشه في حاجة بدون إعالة، وبدون طعام يسد جوعها مدة من الزمن، والقصة مشهورة ومعروفة يتناقلها الخطباء - وفقهم الله -، وهي عبرة لكل من يبحث عن الكرامة، في واقعٍ إنساني مر منذ الأزل. وكان ذلك في حينه مما يمكن فهمه وتقبل تفسيره. أما اليوم فقد أصبح ذلك خارج السياقات الطبيعية المعقولة والمقبولة لدور الدولة. فالدول تطورت وتعقدت، وأصبح أمامها مهمات كبيرة وكثيرة وخطيرة، يتوجب تحملها، لترتقي الدول بواقع أبنائها، فتحصن كتلتها وكيانها ومواقع المسؤولين وكل من فيها، عبر قيامها بواجباتها ضد الفقر والبطالة، وتوفير كل احتياجات مواطنيها العصرية، كما هو دورها ضد الأمية والجهل، والمرض والأوبئة.
نعم، كانت الحسرة تملأ القلب، كلما سمعت عن مواطنين أو أسر بكاملها، تئنُ وتعاني مشاكل الفقر والفاقة، في بلد ينعم بالخير، بل وبالكثير من النعم. فهذه فتاة تجمع بقايا الطعام، من مخلفات زميلاتها في المدرسة. وتلك سيدة أخرى كبيرة في السن مبتلاة، تطلب ما تأكله وتسد به جوعها وجوع من تعيل ممن حولها، ولو كان من لحم الحمير، أجلكم الله، والقصص كثيرة لا تعد ولا تحصى، عن معانات الضعفاء.
وأنا لا أشك هنا، في نقاء سريرة المسؤولين في هذا البلد وطيب طواياهم، وحرصهم على حماية المواطنين من تلك المواقف والمآسي البشعة، والتي قد تحدث كاستثناءات في دول عديدة، وقد تختفي خلف جدران المنازل والحجر الضيقة، فالكل ببساطته وحسه الإنساني الفطري البسيط على الأقل، لا يحب ولن يحب بالتأكيد صور الفقر والفاقة البشعة تلك، ولا توجد بالطبع مسوغات للرغبة من قبل أيٍ كان في ذلك. لكن المسألة أعقد من أن ينظر لها بذلك التبسيط. فكومة الخيوط عندما تتشابك من جهات متعددة، فشدها من أي طرف غالباً ما سيؤدي لإحكام العقد وللمزيد من التعقيد. ونحن هنا لا نستطيع أن نسلط الضوء على كل الزوايا الحرجة. ويكفي أن أشير هنا، أن العقد متداخلة، وأن البعض بعيدٌ جداً عن بؤرة الحدث، والبعد يوجد هنا الكثير من البؤر المظلمة، البعيدة عن الحس.
وهنا بنظرة واقعية للحاضر، المتولد من التاريخ المعلوم، فنحن (كمجتمع) في المملكة العربية السعودية، لم نكن سوى: (مجموعة من البدو الرعاة، ومجموعة من المزارعين والفلاحين البسطاء)، فلم يكن من الطبيعي بالطبع من هؤلاء تاريخياً، أن تولد منهم (هؤلاء السلف)، أمة راقية متحضرة متطورة، ذات نظام وتكوين عصري متطور، من ذلك النوع الذي نطمح إليه اليوم، رغم فقرهم الفكري، وفقر البيئة التي عاشوا فيها التكويني والتقني، الذي لم يخلق ولم يوفر آليات مناسبة للمحاسبة، ولم يكن مؤهلاً لذلك، كي ننكر ما نحن فيه اليوم من إشكالات معاصرة. وهذا لا يعني بالطبع هنا، الركون والتبرير، وعدم الرغبة في التغيير. لكن من أجل البصيرة هنا، فالواجب هو أن ندرس الأزمة، ونراقب ونحلل مراحل النمو وتغيرات التاريخ تلك التي تمر بها الدول، بشكلٍ طبيعي، وهي تنمو وتتطور، فنفهمها بوعي جيداً.
إن المملكة ببساطة، هي خيمتنا الكبيرة. وهي تركة ورثناها وورثها - بكل المزايا والعيوب - المواطن والمسؤول، من شعوب بدائية أو تقليدية بدوية وريفية بسيطة، أنجزت لنا ما أنجزت. والتطوير قادمٌ لا محالة في هذا العصر. وهو مسؤولية أبناء اليوم، ودورهم المرتقب والمطلوب. وقرارات خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - التي نتمنى أن تتسارع وتستمر، تصب في اتجاهات هذا الأمر.
وإن الشد والنزاع هنا، الذي يميل له ويولده البعض بعنف، ليس هو الحل، ولن يزيد أمورنا، إلا تشابكاً وتأزماً وتعقيداً وتشنجاً، ونحن لسنا بحاجة لذلك العنف، فالواقع لا يقتضي ما يدفع باتجاهه البعض من عنف. بل نحن بحاجة ماسة للعقلانية وللتواصل والتنسيق والتفكير والتنظيم والتخطيط البناء والأنسنة والواقعية، والضغط الإيجابي العقلائي السلمي نحو الإصلاح والتغيير، فوق رقعة الشطرنج.
وهنا عودة على (حافز)، فنحن لسنا ملائكة، والمسؤولون ليسوا أنبياء ولا آلهة، ولذا فهذا المولود الجديد (حافز) مثلاً، قد يولد بشيء يسير أو كثير من الخلل، ومع هذا فلن نتشاءم، ولن نيأس. ومع هذا فمن حق المواطنين الشرفاء، أن يمتعضوا من بعض تلك الضوابط والشروط، التي توضع لصرف الإعانة، والتي تقتل الأمل وتقلل الفوائد المرجوة. لكن المسألة أيضاً وتعقيداتها قد تبقى في النهاية بتفريعاتها وتشعباتها حاضرة أكثر على طاولة المسؤول. وربما تغيب عن المواطن العادي المتبرم، كثيرٌ من الإشكالات والتفاصيل الدقيقة الهامة. لكنها من جهة أخرى في النهاية، شراكة المواطن العادي والمسؤول، التي يجب أن تعزز، من أجل الخروج بالوطن ومشاريعه وحلوله من مواطن العلل. وهنا فيجب المرور عبر اللقاء والنقد والاستماع والتفكير والتخطيط المشترك، عبر ما تمليه اشتراطات الشراكة الوطنية الحقيقية. ولا يمكن لأحد أن يحتكر الحل، فيختصره في أفكاره وفي نفسه، فالمواطن العادي لديه أيضاً، الكثير من الملاحظات والأفكار الضرورية، والمعاناة الحقيقية.
إن من الطبيعي، أن يمتعض المواطن من شرط ضبابي عائم يستثني من المعونة، من لديهم دخل جانبي من الأسهم مثلاً، والبعض دخلهم بالريالات، وآخرون دخلهم بالمليارات، وهذا هنا (مثال كوميدي) فقط، لا غير.
ومن الطبيعي، أن يمتعض ذوا الحاجة، من قصر المعونة على سن (٣٥ سنة)، وهي دون سن التقاعد بكثير، والحاجة والبطالة تطارد العاطلين، حتى فوق ذلك السن.
كما أن من الطبيعي، أن يفكر بعض المسؤولين في استيراد جزء من تلك المعونة لتمويل صندوق حافز، ضمانة للاستمرار والفاعلية. وربما تكون هناك اعتراضات وجيهة لدى بعض المواطنين على ذلك.
في الحقيقة، نحن بحاجة للاستماع والاستماع المقابل، وورش عمل كثيرة في أجواء الحرية والتفاهم والتسامح والتشاور، تجمع المواطن والمسؤول، وقدر مناسب من قوة الضغط الشعبية المتزنة والعاقلة والسلمية بيد الجمهور، خدمة للإصلاح والتغيير والتطوير.
صحيحٌ أن هناك الكثير من الكلام والشد والجذب في المنتديات وعلى صفحات الإنترنت والشبكة العنكبوتية، لكنه في أغلب الأحيان شتات، قد يتسم بالفوضى وعدم التنظيم، وقد يتسم بغياب الدقة والموضوعية، لكنه أيضاً قد يحتوي أحياناً كثيرة، على إشكالات حقيقية واقعية، بحاجة للعرض والمناقشة المطولة والمفصلة، وهي بحاجة ماسة، لنزول بعض المسؤولين في موقع القرار والتخطيط للشارع، ومشاركتهم الحوار مع الجمهور، تحت قباب وطنية تنظمها الدولة، تكون شبيهة بقبة مجلس الشورى، لكنها شعبية أكثر منها نخبوية، تتوزع في الأرجاء المختلفة لهذا الوطن.
ونحن نعلم جميعاً، أنه كلما انفجرت أزمة، خرج المسؤولون ملبون، وبادروا بمحاولات احتواء الأزمة، واحتضان الناس. لكن الناس بحاجة لهم أيضاً قبل الأزمات. وأنا أتصور أن الحل أن تكون هناك مجالس مناطقية دائمة، تجمع البسطاء بالمسؤولين عبر مجالس شعبية دورية منظمة، أشبه بالمجالس البرلمانية - وهي خطوة إيجابية -، بحيث لا نكتفي فقط ببعض برامج الإذاعة والفضائيات العابرة. فتناقش من خلالها مشاريع البلد وخطواته وحاجات الناس باستمرار، ويستمع من خلالها لمرئياتهم ومقترحاتهم.
وإنني واثقٌ أن المسؤولين، يحاولون وسيحاولون، إنجاح حافز وولادته ولادة سليمة. لكنه نموذج ودليل آخر على حاجة الوطن لمشاركة وتعاون الجميع من أبنائه. فالإصلاح في وطن كبير ومتشعب ككل البلدان، ليس غرفة طبخ، لن يأتي بأمنية أحد بمفرده، أو بمجرد ضغطة زر.
وهنا، فلنثق جميعاً إذاً في بعضنا، ولنتجه بسلم وحب وعقلانية وتدرج، لإصلاح وتطوير خيمتنا الكبيرة، التي ورثناها من الماضين، بما فيها وفينا من علل. فنحن لسنا ملائكة، لكننا بحبنا وتسامحنا وتخطيطنا وتفاهمنا وتدرجنا، قادرون على أن نسير للأمام، وأن نكون أفضل.
وفي الختام، أقول: "والله يستحي الواحد يكتب عن حافز، وهو يسمع عن زيادة رواتب 100% للشعب الإماراتي الشقيق، بينما ضوابط حافز تطلب الإفصاح عن أي مصدر دخل، حتى لو كان مجرد (عربة نخج)، أو سهم واحد من أسهم شركة أنعام القابضة (المكيرش الخسرانة سابقاً)، وأيضاً كذلك عن مطالب باسترداد من مبالغ معونة حافز، وكأننا في آخر قائمة الشعوب المتحضرة، لكن الله يعين الجميع على التخطيط الجيد والإصلاح والتطوير والتغيير للأفضل من أجل الإنسان، وكان الله في عون المسؤولين عن حافز وعن غيره ... والله من وراء القصد".
ودمتم ودام الوطن ... بكم جميعاً بألف خير.