الحسين في الربيع العربي
لعاشوراء هذا العام نكهة أخرى، حيث الربيع العربي يواصل موسمه مخترقا الخريف البائس الذي ساد المشهد طويلا.
وفي ظني أن أفضل ما يمكن أن نقدمه للجيل الجديد من الشباب العربي المتطلع للحرية والعدالة والكرامة أن نعرفه بالإمام الحسين عليه السلام ونهضته المباركة التي استطاعت أن تحدث قطيعة تاريخية مع الديكتاتورية والاستبداد، وأن تعيد للإسلام شخصيته الحقيقية التي كادت أن تمحى أو تمسخ أو تشوه بسبب الظلم والفساد الذي استشرى في مختلف مناحي الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لم يكن الحسين عليه السلام، ولا ينبغي أن يكون في يوم من الأيام، حكرا على طائفة معينة، أو دين معين، أو قومية معينة، بل هو شخصية إنسانية مُلهِمة عابرة لكل الحدود. هذا ما أدركه الطغاة عبر التاريخ، ويدركه طغاة اليوم أيضا، ولذلك يحاولون جاهدين أن يصنعوا أطرا وحواجز وهمية تجعل من الحسين قضية تاريخية تخص طائفة محدودة أو بعض طائفة، حتى يتمكنوا من إيقاف المد الحسيني التحرري بدعوى الطائفية المقيتة.
وللأسف فقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير بسبب معامل القابلية للتأطف والاستقطاب الطائفي المبتلاة به الأمة، وبسبب تقصيرنا السافر في إنتاج خطاب عصري يستطيع تعريف العالم أجمع بالحسين عليه السلام بما يليق به فكرا متجسدا بأنصع صورة، متجاوزا للزمان والمكان يدعو الإنسان – بما هو إنسان – لاكتشاف ذاته وإمكاناته الهائلة، ويحرضه للثورة على كل واقع فاسد يكبل طاقاته وقدراته ويمنعها من الانطلاق.
إن الكلمات والبيانات والمواقف التي سطرها الحسين وأصحابه يمكنها أن تشكل موادا إعلامية ضخمة راقية المضمون عند أية أمة تقدرها حق قدرها، فتصنع منها نصوصا إبداعية بمختلف اللغات، تتمثل صورا شتى؛ أفلاما ومسلسلات ومسرحيات شعرية وغير شعرية وأوبريتات وأناشيد ولوحات فنية وصور فوتوغرافية ومقالات ومحاضرات وندوات وكتبا وغيرها من أدوات صناعة الرأي العام.
كان يمكن أن يشكل الحسين مصدر إلهام لمناهضي الرأسمالية الجائرة من مؤيدي ( احتلوا وول ستريت ) في نيويورك، ولمناهضي الديكتاتورية في ميدان التحرير بالقاهرة وفي ساحات التغيير على امتداد العالم العربي، ولغيرهم من الساعين إلى التغيير في مختلف بقاع العالم لو قمنا بما يكفي من الجهد التعريفي الصحيح بالحسين، ولكننا لم نفعل.
التعريف لا يكون بطريقة واحدة أو لغة واحدة، ومما لا شك فيه أن واحدة من أفضل الأدوات لإيصال رسالة الحسين في وقتنا الراهن هو عبر إنتاج الأفلام والمسلسلات ذات المستوى العالمي.
لقد شهد فيلم الرسالة الذي أخرجه المخرج السوري الأمريكي الراحل مصطفى العقاد في العام 1977 م إقبالا كبيرا من الجمهور في الغرب، وحققت النسخة الأجنبية منه أرباحا كبيرة. والفيلم كما هو معروف يتحدث عن السيرة النبوية، وتُرجِم إلى 12 لغة، وقد منع في بعض الدول العربية، إلا أن ذلك لم يمنع من انتشاره.
كما حقق فيلم عمر المختار للمخرج ذاته نجاحا مشهودا أيضا، وتعرف الناس من خلاله على هذه الشخصية الليبية التاريخية.
أما فيلم آلام المسيح الذي أخرجه ميل جيبسون، وكلفه 25 مليون دولار، فإنه لا يغطي سوى الساعات الأخيرة فقط ( 12 ساعة ) من حياة السيد المسيح من وجهة نظر إنجيلية، وقد شهد إقبالا منقطع النظير وحصد العديد من الجوائز العالمية وحقق إيرادات ضخمة.
بل إن عملا مسرحيا ضخما بعنوان ( ذي ماونتينتوب – أي قمة الجبل ) خصص لأحداث الليلة الأخيرة فقط من حياة داعية حقوق الإنسان مارتن لوثر كينغ.
والحسين كان داعية من طراز فريد لحقوق الإنسان؛ يظهر هذا من خلال خطاباته ورسائله وممارساته. ففي خطاب وجهه لرأس السلطة المستبدة الممارسة للتمييز والمستأثرة بالثروات العامة، يركز على مسألة الحقوق المضيعة، فيقول: ولقد فضلتَ حتى أفرطت، واستأثرتَ حتى أجحفت، ومنعتَ حتى بخلت، وجرتَ حتى تجاوزت، ما بذلتَ لذي حق من اسم حقه من نصيب.
وفي بيان من بيانات نهضته يبث في الأمة وعيا بحقوقها، ويسعى لتصحيح المفاهيم الخاطئة والثقافة الخانعة التي كرستها السلطة الغاشمة لتبقي على هيمنتها على العباد والمقدرات، ويحرض الأمة على ممارسة دورها المطلوب، ويضع على عاتقه شخصيا المسؤولية الأولى للتغيير.
يقول: «أيّها الناس، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أنْ يدخله مدخله.
ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحقّ من غَيّر.
والحسين داعية الحرية في مداها الأبعد والأنقى، يمارسها في أشد الظروف حرجا وعنتا، حيث يأذن لأصحابه ليلة العاشر من المحرم أن ينصرفوا عنه ويتركوه لوحده دون تحمل أي مسؤولية أو تبعة لموقفهم.
فهو لا يريد أن يسوق الناس معه بالنار والحديد لمعركة قد لا يكونون مقتنعين بها تمام الاقتناع، أو مكرهين عليها حياء منه أو تأثرا بالأجواء المحيطة.
إنه يريد أن يكون كل من معه حرا في اتخاذ قراره دون أية ضغوط.
يقول لأصحابه في ساعة العسرة: أما بعد فإني لا اعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني جميعا خيرا. ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا ، ألا وإني قد رأيت لكم ، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام .
هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله فإن القوم إنما يطلبوني ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري .
والحسين داعية الكرامة الإنسانية والمحارب للتمييز بكافة أشكاله. يهرول إلى خادم ابنه علي بن الحسين عليه السلام المسمى (أسلم التركي) وهو في الرمق الأخير من حياته، فيعتنقه وسط المعركة، ويضع خده الشريف على خده.
كان أسلم يعد بحسب التمييز العنصري السائد آنذاك من الموالي، أي من الفئة المستضعفة من الشعب التي كان يُنظر إليها نظرة دونية في مقابل العرب.
والحسين رمز القيم الإنسانية والمثل العليا لا يتخلى عنها حتى مع ألد أعدائه. عندما نادى شمر بن ذي الجوشن في يوم كربلاء: أين بنو أُختنا؟ أين العباس وإخوته؟ لم يجبه أحد منهم لأنهم يعرفون ما يريد. عندئذ قال الحسين(عليه السلام): «أجيبوه وإن كان فاسقاً، فإنّه بعض أخوالكم».
وعندما عرض على عبيد الله بن الحر الجعفي نصرته، طلب هذا إعفاءه وعرض فرسه السريعة هبة للحسين. ولكن الحسين رفض العرض وسأله في أدب جم: أهذه نصيحة منك؟ فقال الجعفي: نعم. فقال له الحسين بلغة ملؤها العطف والشفقة والرأفة: إنّي سأنصحك كما نصحتني ؛ مهما استطعت أن لا تشهد وقعتنا ولا تسمع واعيتنا ؛ فوالله لا يسمع اليوم واعيتنا أحد ثمّ لا ينصرنا إلاّ أكبه الله على منخريه في النار .
هذا غيض من فيض مواقف الحسين عليه السلام الذي ضحى بنفسه من أجل كرامة الإنسان. إنه صاحب الكلمات المتوهجة التي لا تخبو أبدا: هيهات منا الذلة. إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما. كونوا أحرارا في دنياكم... وغيرها من الأيقونات التي تغرس قيم العزة والمقاومة للذل والخنوع.
لذا فإن مسؤوليتنا عظيمة تجاه العالم لتعريفه بالحسين. المسؤولية تقع على المرجعيات الدينية والمثقفين والتجار والأدباء والفنانين والكتاب وغيرهم من صناع الرأي. إن الأموال التي تنفق في أيام عاشوراء لو تم إعادة توجيه بعضها لمشاريع تساهم في تعريف الحسين بأدوات عصرية حديثة لكان ذلك أنفع للإنسانية كلها.
نحن نعلم أن هناك تعتيما إعلاميا يفسر لنا تجاهل القنوات الفضائية للحضور المليوني في المناسبات الحسينية المختلفة. ومن هنا يصبح الدور المناط بنا أكبر خصوصا في هذا الزمن الرقمي الذي قام بكسر الاحتكار الإعلامي إلى حد كبير.