أستاذنا بدر الشبيب ينعى رفيقة دربه
العطاء بحب
(1)
وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
لا أجد من الكلمات ما يسعفني للتعبير عما يعتريني من حزن وألم شديدين لفراق رفيقة دربي وحبيبة قلبي ذات العطاء الزاخر والوفاء النادر والقلب الزاهر.
( العطاء بحب ).. هاتان الكلمت...ان ربما تلخصان حياتها القصيرة.
أحبت الله والنبي وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وأحبت الناس بقلب كبير يسعهم جميعا.
أحبت فأعطت..
تشرفت بخدمة أهل البيت عليهم السلام منذ نعومة أظفارها.. تفرح لفرحهم وتحزن لحزنهم وتسعى مشتاقة لزيارتهم ومجاورتهم.
وتشرفت بخدمة المجتمع، كل المجتمع، من خلال 16 عاما من عملها الدؤوب المخلص في اللجنة النسائية بجمعية أم الحمام الخيرية التي كان لها مع أخريات من أخواتها شرف تأسيسها.
وتشرفت مع ثلة أخرى من رفيقات دربها بتأسيس أول لجنة نسائية دينية في بلدتنا الطيبة، والتي كانت نواة للأعمال الثقافية والدينية النسائية.
وكان لها الدور الرائد الكبير مع شقيقاتها في لجنة العقيلة في العمل على شراء الأرض التي يقام عليها حاليا صرح من صروح الخير، أعني حسينية العقيلة زينب عليها السلام.
وتميزت بقدرات إدارية فذة تجمع بين إدارة البيت وخارجه دون إخلال أو تقصير.
تقوم بمتطلبات البيت من تربية أولادها ومتابعة شؤونهم وأداء الواجبات الزوجية وتقوم في الوقت ذاته بكل حرص على الوفاء بالواجبات الاجتماعية من بر بالوالدين إلى صلة للأرحام إلى تمتين وتوسيع لشبكة علاقاتها المتمددة إلى المشاركة والإشراف على العديد من الأنشطة الدينية والثقافية والاجتماعية.
ولأنها أعطت بحب.. فقد شعر الجميع بألم فراقها وبالفراغ الكبير الذي تركته خلفها.
بصماتها المميزة ستبقى شاهدة على عمق حبها ومدى عطائها.
كلماتي متعثرة مثلي.. فلن أستطيع مهما اجتهدت أن أفيها حقها..
لقد أهدتني ولدا وأربع بنات وزعت عليهم من صفاتها، ففي كل واحد منهم صفة أو أكثر منها.. وجمعتهم جميعا في محبة الله تعالى والنبي وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.
وكانت لي في كل محطة من حياتي سندا وعونا.. تشد أزري وتشاركني أمري..
وكانت لأخواتي أما بعد أمهم، ولإخواني الكبار أختا وللصغار أما..
كما كانت تعتبر نفسها أما لإخوانها وأخواتها بعد فقد أمهم، وكذلك كانت لأولاد وبنات أخيها سلمان وأختها نعيمة.
الخسارة بها كبيرة.. وعزاؤنا أن الله الحكيم الرحيم اللطيف الخبير اختار لها دار البقاء.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
نسأل الله أن يلهمنا الصبر ويعظم لنا الأجر ويربط على قلوبنا بالسلوان وأن يتغمدها بواسع الرحمة والمغفرة والرضوان وأن يحشرها مع محمد وآله الأطهار.
(2)
في مرضه الأخير دخل عليه جمع من العلماء لزيارته والاطمئنان على صحته، وأخبروه بأن الكثير من العلماء الأخيار والمؤمنين الأبرار يدعون له بالشفاء ويتصدقون بأموالهم طلبا لبرئه وعافيته وسلامته.
فما كان جواب المجدد الكبير الميرزا محمد حسن الشيرازي إلا أن توجه إلى ربه قائلا: يا من لا ترد حكمتَه الوسائل.
ما أعظمه وأحكمه من جواب صادر من نفس مطمئنة ذات بصيرة ربانية ترى ما لا يراه الآخرون.
لقد أخذنا بالوسائل ا...لمادية والمعنوية ما أمكننا كي تعود لنا غاليتنا المؤمنة أم أحمد سالمة معافاة من كل سوء. أخذنا أهبتنا واستعدانا لنقلها إلى مستشفى ذي سمعة طبية عالية، ولكن لم يكن ذلك ممكنا بسبب التدهور السريع والمتلاحق والمفاجئ في حالتها الصحية.
ودعا لها العلماء الأعلام والمؤمنون في مظان الإجابة وفي كل مكان، وتصدق بنية شفائها الخيرون الأطياب، ولكن حكمة الله - وهو أحكم الحاكمين - أرادت شيئا آخر، فلله ما أعطى ولله ما أخذ.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أجدني هنا مدينا لكل من وقف ويقف بجانبنا في هذه المصيبة الأليمة، وهم بحمد الله كثير.
كان بودي أن أذكر أسماءهم رجالا ونساء واحدا واحدا، ولكن أنى لي بذلك، ومن لا أعرف ربما أكثر مما أعرف.
فلكل من دعا أو تصدق أو أسدى خدمة أو أشار برأي أو اهتم أو أبدى استعدادا لعمل شيء أو واسى أو عزى أو فعل شيئا إيجابيا في هذا الموقف صغيرا أو كبيرا..
لكل من كتب أو يكتب، لكل من حضر أو اتصل أو أرسل رسالة..
لجميع المواسين فردا فردا منا شكرنا الخالص الذي يقصر عن أداء الواجب تجاه وقفتكم الكريمة ومشاعركم الصادقة..
أسأل الله تعالى أن يحفظ الجميع من كل مكروه، وأن يمن على مرضاكم بالصحة والشفاء والعافية، وأن يقضي حوائجكم للدنيا والآخرة. إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(3)
رحم الله فقيدتنا الغالية التي لم يكن فقدها فقد واحدة، بل فقد واحدات، لأن كل دور كانت تقوم به يحتاج إلى واحدة متفرغة له.. أما هي فقد استطاعت أن تقسم نفسها بحيث تكون حاضرة في كل دور بكلها وكأنها غير مقسمة.. ولذا فقد أيتمت برحيلها جميع الأدوار.
أظن أن الفراغ الذي تركته خلفها عصي على أن يُملأ من بعدها.
لقد أتعبتِ مَن بعدَك يا فائزة.
رحم الله من يقرأ لروحها الفاتحة
(4)
لما بلغ عليا عليه السلام موتُ مالك الأشتر النخعي، ألقى بيانا تأبينيا قال فيه : إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، إني أحتسبه عندك ، فإن موته من مصائب الدهر .
فرحم الله مالكا ، قد وفى بعهده ، وقضى نحبه ، ولقي ربه ، مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى الله عليه وآله فإنها أعظم المصيبة .
قال جماعة: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر ، فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه ، ثم قال : لله در مالك، وما مالك ! لو كان من جبل لكان فندا، ولو كان من حجر لكان صلدا ، أما واللهِ ليَهُدّنّ موتُك عالَما،
ولَيُفرِحَنّ عالَما، على مِثل مالكٍ فلْتَبكِ البواكي. وهل موجود كمالك؟!
قال علقمة بن قيس النخعي : فما زال علي يتلهف ويتأسف ، حتى ظننا أنه المصاب به دوننا ، وعرف ذلك في وجهه أياما .
هكذا يعلمنا أمير المؤمنين عليه السلام كيف نتصرف في المواقف الصعبة وعند نزول المصيبة وفقدان الأحبة. وذلك من خلال التالي:
1- الاسترجاع بقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وهو أدب قرآني يشتمل على معارف جمة وآثار عظيمة، فهو إقرار منا على أنفسنا بأنها مملوكة لله يتصرف فيها كيف يشاء، وإقرار أيضا بأننا هالكون فراجعون إليه لنلقى عنده جزاءنا الأوفى.
هذا التلقين الذاتي المبدوء بحرف التوكيد ( إن ) يبعث في نفوسنا الطمأنينة والرضا بقضاء الله. إنه تذكير بالحقيقة التي نغفل عنها في زحمة الحياة ومتاهاتها، فنظن أننا مالكون حقيقيون لأنفسنا ولمالنا وربما لأهلنا،
وننسى المالك الحق الذي له ما في السماوات وما في الأرض.
وتذكير أيضا بيوم نعود فيه إلى الله ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ).
يتحدث صاحب الميزان عن فرادة هذا المسلك في مواجهة المصائب قائلا: فإن بناءه على الحب العبودي، و إيثار جانب الرب على جانب العبد و من المعلوم أن الحب و الوله و التيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا
يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، و للحب أحكام.
2- الثناء على الله بقول: الحمد لله رب العالمين. الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري كالكرم وإغاثة الملهوف والحلم وغيرها من الأفعال والصفات الاختيارية الجميلة. ونحن بهذا القول نظهر الرضا لله تعالى، ونُلقن
أنفسنا أن ما أصابنا جميل لأن الله جميل لا يفعل إلا الجميل. غاية الأمر أنه قد تخفى علينا في كثير من الأحيان خصوصا عند فقد الأحبة أو الصحة مواطن الجمال.
3- احتساب الفقيد عند الله تعالى، ومعنى ذلك طلب الأجر والمثوبة من الله.
4- تأبين الفقيد بذكر محاسنه ومآثره، والثناء على ما قدمه في حياته.
5- التعبير عن مشاعر الحزن وعدم كبتها. وهذا ظاهر من قول الجماعة: فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه.
6- تذكير النفس بالمصائب الأعظم كي تهون عليها مصيبتها، وأعظم المصائب كما قال أمير المؤمنين مصيبة الأمة بل العالم بفقد أشرف الخلق أجمعين النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الصبر والسلوان وأن يجعلنا ممن ينتفع بهذه التعاليم الرائعة، وأن يتغمد فقيدتنا الغالية بواسع رحمته وأن يسكنها فسيح جناته وأن يجزيها خير الجزاء.. فلقد كانت نعم البنت لوالديها،
ونعم الأخت لإخوانها وأخواتها، ونعم الزوجة لي، ونعم الأم لأبنائها، ونعم البنت والأخت والأم لمجتمعها..