عندما تغيب إرادة الحل
من السهولة بمكان التعامل مع المشاكل المستعصية أيا كان نوعها، اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، بسياسة التجاهل وتركها لعامل الزمن باعتباره كفيلا بحلحلتها كما تظن بعض الحكومات أحيانا.
وهي سياسة فاشلة بكل تأكيد، لأن ما يحدث هو استفحال المشاكل وتراكمها لدرجة اتساع الخرق على الراقع، وتولد مشاكل أخرى لم تكن في الحسبان.
المشاكل التي لا يتم التعاطي معها بالجدية المطلوبة لا تموت، وإنما تعيد إنتاج نفسها في أشكال مختلفة، كما تتكاثر وتتناسل بصورة مخيفة. والمهدئات التي تستخدم بشكل مفرط في علاجها سيذهب مفعولها بعد حين، وسيكتشف الجميع الخديعة الكبرى التي يمارسها مدمنو الحلول المهدئة، ولكن بعد فوات الأوان.
المتابع للشؤون العربية عموما والخليجية على وجه الخصوص يلاحظ أن هناك مراهنة على عامل الوقت وقدرته الحاسمة على حسم الأمور لصالح إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه واغتيال الطموحات والتطلعات لغد أكثر إشراقا ينعم فيه الإنسان بالحرية والكرامة والعدالة والمواطنة الكاملة غير المنقوصة.
فالخليج رغم ثرواته الهائلة ومحدودية عدد السكان يغرق في العديد من المشكلات المزمنة كالبطالة والفساد المالي والإداري والتضخم وأزمة السكن وتدني الخدمات الصحية والتعليمية، بالإضافة للتخلف السياسي مقارنة بالأنظمة السياسية الحديثة في العالم، ومشكلات الطائفية والبدون والتمييز المناطقي والقبلي وضعف مؤسسات المجتمع المدني وقدرتها المتواضعة على التأثير وغياب الشفافية، وضيق هامش الحريات العامة، وتفشي المحسوبيات في تعيينات الوظائف العامة وقلة الاهتمام بالبحث العلمي الجاد من ناحية المخصصات المالية له والعلماء المؤهلين للقيام به. والقائمة تطول وإن كانت تختلف سعة وضيقا من دولة لأخرى.
وبالرغم من كل هذا فإننا لا نلحظ أي نقاش جدي لهذه الملفات الحساسة سواء على مستوى الدولة الواحدة أو على مستوى مجلس التعاون، حتى تكاد القرارات الصادرة عن المجلس تتشابه مضامينها منذ تأسيس المجلس حتى الآن، كأنها لا تأبه بالمستجدات والتغييرات والمخاضات التي تعيشها مجتمعاتها.
- هل تحدث أي بيان عن المشكل الطائفي أو البدون وحاول وضع الحلول الناجعة؟
- هل أتى أي بيان على معالجة البطالة التي تهدد مستقبل الشباب في ظل وجود أعداد مليونية من العمالة الوافدة؟
- هل تطرق أي بيان إلى ضرورة تحديث النظم السياسية في المجلس قبل الدعوة إلى توحيد دوله؟
- هل تعاطى المجلس بواقعية مع ما يحدث في البحرين وحاول أن يضع خارطة طريق لحل الأزمة، أم أنه ساهم بشكل سلبي فيها حيث حاول القفز على مشكلة التمييز الطائفي وغياب العدالة الاجتماعية بتوزيع التهم على أطراف خارجية لم يثبت تدخلها حتى تقرير بسيوني؟
إن أمام كل مشكلة أحد طريقين؛ أحدهما يعترف بها ويحاول أن يضع الحلول الناجعة لها.
والآخر إما أن ينكرها تماما، أو لا يتعامل معها بالعلاج المناسب، مما يؤدي إلى تفاقمها واستشراء دائها وربما يصل الأمر إلى استحالة الدواء.
ما يفعله العالم المتحضر هو الطريق الأول، وهو ما لاحظناه مؤخرا فيما يمكن أن نسميه ب ( الفزعة ) الأوروبية لإنقاذ اقتصاد اليونان من الإفلاس، هذا على مستوى الاتحاد الأوروبي. أما على مستوى الدولة كدولة فيمكن أن نضرب مثالا لمعالجة هولندا لملف المهاجرين، حيث قامت بسلسلة من الإجراءات العملية لتطبيق سياسة إدماج المهاجرين في المجتمع الهولندي. يتحدث محمد بن جماعة في مقال له بعنوان: التعددية الثقافية في تجارب الدول المعاصرة: نموذج هولندا، يتحدث عن سياسة الإدماج هذه قائلا: فبالنظر إلى سياسات الإدماج الهولندية في أبعادها الثلاثة: القانوني، والاقتصادي-الاجتماعي، والعرقي-الثقافي، يعتبر البعد القانوني أولها ضبطا، بمعنى أن هذه القوانين تؤدي في محصلتها إلى أن الحد من الهجرة هو الأفضل اجتماعيا. غير أنه أضيف إليها فكرة أن يحصل المهاجرون الذين تم قبولهم على المواطنة الكاملة بعد 5 سنوات من الإقامة الشرعية الدائمة، مع إعطاء المهاجرين جميع الحقوق المدنية كالمواطنين في ما عدا حق التصويت والترشح للانتخابات الوطنية.
في المقابل نرى أن مجلس التعاون وقف كالمتفرج أمام أزمة ديون دبي التي عصفت بها عام 2009م، كما أن دول المجلس لم تقدم كمجموع أو آحاد أية حلول للمشكلة الطائفية أو مشكلة البدون مثلا. بل على العكس من ذلك حيث نرى على الأرض تكريسا للواقع الطائفي المر من خلال العديد من الممارسات التي تزيد الطين بلة. إن انعدام التمثيل العادل لطائفة ما في المجالس التشريعية وضعف حضورها في كافة أجهزة الدولة خاصة في الوظائف العامة العليا، والتي ينبغي أن يتم شغلها على أساس مبدأي المساواة في الفرص والجدارة السياسية والوظيفية، وعدم حصولها على ما تستحقه من خدمات تعليمية وصحية مناسبة كإنشاء الجامعات والمستشفيات الضخمة في مناطق تواجدها خصوصا مع الحاجة الملحة لذلك؛ إن هذا كله وغيره الكثير لا يمكن أن يعطي أي إشارة إيجابية للمنتمين لهذه الطائفة كي يشعروا بالمواطنة الكاملة.
لا توجد في الواقع مشكلة تستعصي على الحل إذا توفرت الإرادة السياسية لذلك، أما مع غيابها فلا يمكن أن نتوقع أن يأتي الزمن بحلول سحرية أو يقوم بإنهاء المشكلة بنفسه.
لقد أنتج الفكر السياسي العديد من الحلول لمشكلة التعددية الثقافية والطوائف المهمشة حين تصدى لذلك، كنظام تخصيص المقاعد الذي اعتمدته الأردن مثلا حين خصصت عددا من مقاعد البرلمان للشراكسة والمسيحيين، وكنظام الحد الأدنى كنسبة مئوية للتمثيل، وكنظام التمثيل النسبي، والتصويت التفضيلي، وغيرها.
إذن كل ما على السياسيين فعله – إن أرادوا – اختيار واحد أو أكثر من سلة الحلول تلك وتطبيقه.
وحتى تتوفر الإرادة السياسية، سنبقى نردد مع الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري:
ستَبقى طويلاً هذه إذا لم يَنَلْها مُصلحونَ بواسلٌ |
الأزماتُإذا لم تُقصِّرْ عُمرَها الصدَّمَاتُ جريئونَ فيما يَدَّعونَ كُفاةُ. |