من أسرار«جاسم»
كنت هناك بجواره في المستشفى " أتشرف " بتقاسم خدمته مع أخويه الودودين ، وصهريه المخلصين ، وزوجته الواعية الصابرة ، وأبنائه الموفقين ، كان رغم مرارة الألم وجديّة الموقف ، وقسوة الظرف ، مُسيطراً على أعصابه المُرهقة أصلاً من موجات المُعاناة ، وهزّات الوجع الذي كان يعصفُ بكل جزءٍ من جسمه النحيل ، ويضغط بلا هوادة على أزاره الساخنة ، ورغم كل ذلك السطو القاهر لم تتزحزح إرادته الصلبة عن مكانها المُعتاد ، ولم تخور عزيمته المعهودة على الإطلاق .
كان عندما يفيق يُبادر فوراً إلى السؤال عن الآخرين ممن بادلهم حباً بحب ، ووفاءً بوفاء ، ورغم أنه كان على علمٍ بما سيؤول إليه أمره - كما أعتقد - إلاّ أنه كان حريصاً على أن لا يجرح من كنّا نلتف حوله بأي كلامٍ قد يتسبب في مضايقتنا أو شعورنا بالأسى والألم بأي صورة كانت ، بل إنهُ كان متعاوناً معنا في ما كنا نطلبه منه لو تسبب ذلك في مُضايقته بعض الشيء .
إنني هنا لا أنقل هذه الصور التفاعلية والحيوية بقصد إثارة المشاعر ، وتأليب الأحاسيس على بعضها البعض ، ولكنني أروي دروساً في الصبر على المحنة ، وكيف تحولت إلى منحة ربّانية في فكر فقيدنا الغالي م. جاسم . نعم أيها الأحبة لقد كنا نتتلمذُ في كل لحظة على يديه أعظم وأصعب بل وأبلغ الدروس ، فلا هو من المعصومين حتى لا نستكثر منه ذلك ، وليس من العرفانيين ، بل هو " رجلٌ صالح " عرف الطريق إلى الله ، فثبّتهُ اللهُ على مثواه .
الكثير .. الكثير .. من الرسائل والحكايات التي أسرّ بها لكلِّ واحدٍ منّا على إنفراد ، وما زلنا نحتفظ بها لأنفسنا ، ولم يبادر أحدنا حتى اللحظة للبوح للآخر بما لديه أو ما أؤتمن عليه ، لئلا نقع في فخ المبالغة ، أو نستفزَّ المشاعر السخيّة للآخرين ، لقد كانت بحق دورة تدريبية" مُكثّفة " لمدة أربعة عشر يوماً ، في فنون التعامل مع الذات في الظروف الضاغطة ، وفي الإستثمار الإستراتيجي للمواقف الحرجة ، وفي رافعات الأمل في لحظة الألم ، وفي الطريق إلى الجنّة بإذن الله ، ولقد صاحبتها العديد من الورش التدريبية في " الإتصال الإنساني في فرق العمل ، وآليات التفاعل الإيجابي مع المتناقضات ، وخرائط إدارة المواقف المشحونة بالإنفعالات .
نعم أيها " الجاسم " المستلقي الآن بأمان بين يدي الباري عزّ وجل ، مفعماً بنور النبوة
والإمامة ودعاء المؤمنين . أُبشِّرك - يا حبيبي - ولو أنني أعلم يقيناً بأنك كنت تسمعُ وترى دون أن نشعر بذلك ، بأن موكب تشييع جثمانك الطّاهر كان مهيباً ، جامعاً لا مُفرِّقاً ، متنوع الأطياف لا آحادياً منعزلاً ، كما كانت مجالس قراءة الفاتحة على روحك السّمحة مُكتظة بالمُحبين الذين ربما البعض منهم قد تورّط في حبك دون أن يعرفوك ، لأن سيرتك العطِرة تفوح كالبخور المعربد في كل الطرقات ، فما أروعك من شقيق لم تلده أمي ، وما أصبرك من قابضٍ على اليقين فلا يكترث بالمجهول ، هكذا أعارتك الدنيا لمن يستحق ، وسلبك منها من يملك بقدرته الحق ، فرحماك ربي بمن لم يظل الطريق إليك يوماً . يا رب رُحماك . " الفاتحة " .