غياب الوعي حضور الاستبداد
مقوم بقاء الاستبداد في مجتمع ما هو نفس مقوم وجوده. هذه حقيقة بديهية يغفل عنها الكثيرون مما يؤدي إلى إعادة إنتاج الاستبداد في نسخة جديدة معدلة ومنقحة بعد كل محطة كان يُظن أنها ستكون طيا للماضي البائس، وصفحة نقية لعهد جديد من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
يحضر الاستبداد حين يغيب الوعي؛ حقيقة يدركها المستبدون والدائرون في فلكهم تمام الإدراك، وفي ذات الوقت يجهلها المستبَد بهم دون أن يدركوا جهلهم هذا، حيث يعيشون جهلا مركبا، أو بحسب الوصف القرآني : ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ﴾ (11) الذاريات.
أما كيف يحدث ذلك، فهذا ما ينبغي تسليط الضوء عليه.
أس المسألة يتعلق بما يمكن أن نسميه أدوات التغييب الطوعي للوعي. حيث يقوم الجمهور المستهدَف بالاشتراك المجاني في تسليم عقله ووعيه لماكينة ضخمة يمارس مديروها ومحركوها بدهاء وتحت غطاء من الديمقراطية والحياد والموضوعية والحرية الإعلامية والسياسية عملية في غاية النظافة، وهي غسيل دماغ الآخرين لتصبح مهمة ترويضهم وتطويعهم أبسط ما يكون.
هذا ما يؤكد عليه أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة كاليفورنيا " هربرت شيلر " في كتابه ( المتلاعبون بالعقول ). فقد تمثلت – حسب رأيه - العبقرية المرعبة للنخبة السياسية الأمريكية في قدرتها على إقناع الشعب بالتصويت ضد أكثر مصالحه أهمية دون حاجة للقمع والاضطهاد ، فيقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات تحدد معتقدات الناس ومواقفهم، بل وتحدد في النهاية سلوكهم.
وهو الأمر الذي كتب عنه بغزارة المفكر الأمريكي اللامع " نعوم تشومسكي " ومنها كتابه ( هيمنة الإعلام.. الإنجازات المذهلة للدعاية ). فهو يرى بأن الديمقراطية المعاصرة تتبنى وجهة النظر القائلة أن دور الجمهور هو دور "المتفرجين" لا "المشاركين" الذين يظهرون كل سنتين للمصادقة على قرارات اتخذت في مكان ما ليختاروا بين ممثلي القطاعات المهيمنة فيما يسمى بالانتخابات. إنها الذروة التوفيقية بين عقلنة مباشرة لديمقراطية رأسمالية وشرعنة غير مباشرة قصد التحكم في ذلك الجمهور المتفرج، وفى أحسن الأحوال، جمهور يحسن التصفيق.
هندسة الرأي العام وصناعة القبول هو ما تقوم به نخبة قليلة لإعادة تشكيل الوعي العام لتحقيق أهدافها والحفاظ على بقائها ومصالحها. ويعتمد ذلك على آليات عديدة ومعقدة، تستنفر فيها أذكى المواهب من الإعلاميين والمثقفين وعلماء النفس والاجتماع والاتصال وغيرهم، من أجل نجاح هذه الصناعة القذرة.
من تلك الآليات إعادة توجيه الطاقات نحو عدو ما تقوم باختراعه وتضخيمه. في الغرب مثلا كان الاتحاد السوفياتي سابقا هو العدو، ثم تحول إلى الإسلام، ثم إلى محور الشر. ومنها خلق التوتر والتعصب الديني لإشغال الجمهور عن قضاياه الأساسية، ولضمان بقائه بعيدا عن التأثير الحقيقي في مجريات الأحداث. ومنها تشتيت الانتباه عن طريق الضخ الإعلامي المكثف الذي يركز الضوء على بقعة ما في المسرح، تاركا بقية المسرح غارقا في الظلام الدامس. ومنها إلهاء الجمهور بالنجومية الزائفة والمسابقات التافهة ( ملكة جمال العالم مثالا ).
لا أريد هنا الاستغراق في سرد الآليات، فهذه تحتاج لموضوع مستقل، وإنما أردت هنا التنبيه على حقيقة الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام بمختلف أشكالها في صناعة الوعي العام حسب ما يريده المسيطرون عليها. وبالتالي فقد نتخذ موقفا أو نتبنى رأيا ونظن أنه من بنات أفكارنا ومن صنع عقولنا، ولكنه في الحقيقة طبق جاهز قدم إلينا على أننا نحن الصانعون له.
هل كان يمكن لفرعون أن يكون كذلك لولا ما قام به من تلاعب بالعقول، عبر عنه القرآن في بلاغة معجزة:﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ (54) سورة الزخرف.
كانوا فاسقين بخروجهم عن طاعة عقولهم، فغاب وعيهم، أوصلهم هذا الفسق إلى الإذعان لكل ما يريده فرعون.