هل أنا مستبد أيضا؟
هل أنا مستبد أيضا؟
من الصعب أن يطرح الواحد منا هذا السؤال على نفسه:
هل شاركتُ في صنع الاستبداد؟
وما مقدار مساهمتي فيه؟
الصعوبة نابعة من عدة أسباب منها حب المرء لذاته، ورغبته في إبعادها عن كل ما يمكن أن يُعتبر خدشا لها أو مساسا بصورتها.
ومن تلك الأسباب أيضا العُجب الذي يضع النفس فوق النقد وخارج دائرةالاتهام.
وهناك بالطبع أسباب تربوية واجتماعية ونفسية وغيرها تشكل في مجموعها مصدات لحماية الذات من المكاشفة والمصارحة وإبقائها بعيدة متعالية على الأسئلة المشككة في أدائها.
عندما يقع حادث سير لأحدهم مثلا تراه يبادر بتوجيه الاتهامات إلى خارج ذاته؛ مرة يتهم السائق الآخر، وأخرى يتهم إطارات السيارة لأنها لم تكن في حالة جيدة، وثالثة يتهم الطقس الرديء ورابعة يلقي باللائمة على الشارع المتهالك، وهكذا. المهم أن يظل هو بريئا لا ذنب له فيما حدث، لأنه في كل الأحوال قضاء وقدر.
وعندما يفشل طالب في دراسته يصوب سهام اتهامه إلى المنهج والمعلم ومبنى المدرسة وزميله في الفصل. وهكذا في بقية أمورنا وشؤوننا، وذلك سبب رئيس من أسباب تخلفنا وتقهقرنا.
في موضوع الاستبداد قد نتحدث عن الاستبداد السياسي وعن الطغاة المستبدين كثيرا، وهو أمر مفهوم ومشروع، ولكن غير المفهوم أن لا نتحدث عن حواضن الاستبداد السياسي ومفاعلاته النووية، من تسلط تربوي وعنف أسري وقمع اجتماعي وتعسف إداري وغيرها.
هذه الحواضن والمفاعلات واقعة داخل دائرة نفوذنا وتأثيرنا، فنحن مثلا يمكننا أن نغير نمط سلوكنا التسلطي على الأقربين منا من أولاد أو أزواج، وأن نمتنع عن ممارسة العنف في بيوتنا، ونساهم بالتالي في تنشئة جيل يحترم ذاته، ويرفض الاستبداد من أي مصدر كان.
في كتابه القيم (بنية السلطة وإشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي) يستعرض الدكتور علي أسعد وطفة نتائج الدراسات الحديثة حول أطفال الأسر المتسلطة والمتسامحة.
فأطفال الأسر المتسلطة والمتصلبة تربويا:
- يعانون من الخجل و الخوف في علاقاتهم مع الآخرين.
- يحاولون إرضاء معلميهم.
- علاقاتهم مع زملائهم لا غنى فيها ومشحونة بالخجل والانطوائية.
- أغلب علاقاتهم العاطفية تصاب بالإحباط والإخفاق.
- يشعرون بمزيد من القلق والتوتر بمشاعر الإحساس بالذنب.
- مزيد من مشاعر وأحاسيس الشقاء والبؤس والميل إلى البكاء.
- مزيد من الإحساس بالتبعية تجاه الوالدين.
أما الأطفال الذين يعيشون في أوساط أسرية تعتمد التنشئة الاجتماعية الديمقراطية فإنهم يتميزون بالسمات التالية:
- أكثر ذكاء و قدرة على التحصيل .
- أكثر قدرة على التكيف الاجتماعي .
- أكثر قدرة على الإنجاز .
- أكثر قدرة على الانهماك في نشاط عقلي تحت ظروف صعبة .
- أكثر اعتمادا على النفس و ميلا إلى الاستقلال.
- أكثر اتصافا بالود و أقل عدوانية .
- أكثر تلقائية و أصالة و ابتكارا.
إذن يمكننا هنا أن نختار بين أمرين لكل منهما آثاره على مستوى قبول الاستبداد السياسي أو رفضه.
فالتربية التي تعتمد الإخضاع والإكراه لا يمكن أن تنتج غير أفراد خانعين، وبعكسها تماما تربية الحب والإقناع حيث تنتج الأقوياء الواثقين غير المستسلمين.
وما أروع ما يعلمنا إياه الخليل إبراهيم عليه السلام من أسلوب تربوي رفيع يقوم على المشاورة حتى في الأمر الذي لا محيص من تنفيذه: َ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى.
هذا عن الجانب التربوي، وإذا انتقلنا إلى الحياة الزوجية، فيمكن أن نمارس هناك الديكتاتورية والظلم بأبشع أشكاله، ثم نتوجه إلى الله تعالى بالدعاء على الظالمين، دون أن نشعر بأننا ندعو على أنفسنا أيضا.
تقول إحداهن في أحد الدراسات الميدانية: "للأسف لا أستطيع مناقشة زوجي في أي شيء يقوله، فهو عصبي وثائر دائما، كلماته أوامر لا بد أن تنفذ في التو واللحظة، حتى لو كانت خاطئة أو غير معقولة، أو متناقضة، وإذا لم أنفذها تعرضت للعقاب الذي يتراوح بين المقاطعة الكلامية، وحتى الإيذاء البدني، وأنا تحت طائلة عقابه هذا منذ زواجي وحتى الآن، لأنني لم أعد أعرف الصح من الخطأ، والمهم أن أبادر بالاعتذار له، حتى بعد أن أتعرض للإيذاء منه".
ولا يقف الأمر عند الأسرة، بل يتعداها إلى الدوائر الأخرى من المدرسة إلى بيئة العمل إلى المجتمع، حيث يتم إعادة إنتاج القهر والاستبداد بأشكاله المختلفة.
إننا حين نرفض الاستبداد السياسي، علينا أن نبدأ بإعادة النظر في ممارساتنا ومساءلتها، حتى لا نقع فيما نرفضه.