غاندي الحقوقي المناضل
موهنداس كارامشاند غاندي، أو المهاتما غاندي فيما بعد هو نموذج فريد من المناضلين الذين كرسوا علمهم وحياتهم لتغيير الواقع البائس من خلال مفردات الواقع نفسه بعد إعادة صياغتها لتكون جزءا من معادلة كيميائية جديدة أطلق عليها (الساتياغراها) أي الإصرار على الحقيقة والتمسك بها والإخلاص لها.
الساتياغراها هي معادلة النضال اللاعنفي الذي اعتمده غاندي كخيار استراتيجي في مسيرة التغيير لا يحيد عنها أبدا.
وهي ليست سياسة سلبية انسحابية كما يبدو للبعض، بل هي سياسة الرد على العنف ومواجهته بأسلحة أخرى أمضى منه في المدى البعيد.
كثيرون يقرؤون الفصول الأخيرة فقط من حياة غاندي، فتفوتهم البدايات وهي مهمة جدا لإدراك الأبعاد الحقيقية لتلك الشخصية والنضالات الطويلة المريرة التي خاضتها حتى وصلت إلى لحظة الانتصار.
غاندي المولود في الهند في 2 أكتوبر 1869 م، درس الحقوق في بريطانيا التي كانت تستعمر الهند آنذاك، وعاد من دراسته عام 1891 م. ولما فشل في الحصول على فرصة عمل في الهند، قبل عرضا للعمل لمدة سنة في مكتب للمحاماة في جنوب أفريقيا التي كانت هي الأخرى خاضعة للتاج البريطاني.
غير أن هذه السنة امتدت لتصبح أكثر من عشرين سنة ( 1893-1915) حيث شاهد غاندي الظلم والتمييز العنصري الذي يتعرض له الهنود في جنوب أفريقيا، فقرر أن يخوض معركة التغيير.
وكانت البداية معركة قانونية، فقد أعلنت حكومة جنوب إفريقيا العنصرية نيتها إصدار تشريع يحظر حق التصويت على الهنود. فتصدى غاندي لهذا الأمر مستخدما سلاحه الذي يتقنه – أي معرفته القانونية – ليثبت عدم شرعية هذا التشريع وليكسب المعركة في النهاية.
واصل غاندي نضاله السلمي في جنوب أفريقيا لإنهاء التمييز العنصري ضد الهنود هناك من خلال كتابة آلاف العرائض الموجهة للسلطة العنصرية، وتأسيس صحيفة الرأي الهندي وتأسيس المؤتمر الهندي وإنشاء مجتمع زراعي للهنود قرب مدينة دوربان.
وحقق العديد من النجاحات كتغيير ما كان يعرف بـ"المرسوم الآسيوي" الذي يفرض على الهنود تسجيل أنفسهم في سجلات خاصة، وثني الحكومة البريطانية عن عزمها تحديد الهجرة الهندية إلى جنوب أفريقيا، ومكافحة قانون إلغاء عقود الزواج غير المسيحية، وتحسين أوضاع عمال المناجم؛ وفي النهاية تحقيق الكرامة الإنسانية للهنود.
هذه النجاحات لم تأتِ بالمجان، بل دفع هو وأنصاره الثمن الباهظ من أنفسهم وحريتهم وأرزاقهم وآلامهم وعذاباتهم، حيث واجهوا الهراوات والرصاص والجوع والسجن والتعذيب بمعادلة الساتياغراها، التي تعتمد العصيان المدني والمسيرات السلمية والإضرابات وغيرها من أدوات النضال اللاعنفي طريقا صعبا وشاقا لإحداث التغيير.
في منظور الساتياغراها "الذي يرفض القتل هو أشجع من الذي يقتل، والذي يتقبل الألم والموت هو أشجع من الذي يرفض إبداع علاقة إنسانية مع الآخر المختلف" كما يقول لطفي حداد.
الساتياغراها هي المقاومة من خلال الثقة بالذات وبعدالة القضية والاستعداد للتضحية في سبيلها مع الحفاظ على أقصى درجات الانضباط في الحركة التغييرية.
لقد كان من أهم نجاح فلسفة الساتياغراها ورواجها هو التزام صاحبها والداعية إليها بها التزاما تاما، حيث دافع غاندي بكل سلمية عن الهنود وغيرهم من الفئات المضطهدة من الأفارقة الأصليين والملونين، وعاش حياة الزهد والبساطة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين تخلى عن موكليه الأغنياء، ورفض إدخال أطفاله المدارس الأوروبية التي كانت مفتوحة أمامه باعتباره محاميا يترافع أمام المحاكم العليا.
هكذا اندك غاندي بالمثل التي يدعو لها فالتف الناس له وتمكن من استثمار طاقاتهم وتوجيهها ليصنع بهم ولهم النجاح.
تلك قصته في جنوب أفريقيا، أما في الهند فلها مقال آخر.