حياة في النضال الحقوقي
بين قرار إلغاء الرق في أمريكا عام 1863 م، الذي وقعه أبراهام لينكولن الرئيس الأمريكي السادس عشر، وبين توقيع الرئيس السادس والثلاثين ليندون جونسون عام 1964 م على مشروع قانون الحقوق المدنية، كانت المسافة الفاصلة 101 عاما.لعل هذا الواحد بعد المائة يشير إلى بلوغ الغاية في المشوار الطويل كما تشير له الليلة الواحدة بعد الألف في حكاية ألف ليلة وليلة.
كما قلنا أكثر من مرة فإن التحولات الاجتماعية تحتاج إلى وقت طويل وجهد مثابر وعمل متواصل وتضحيات جسام كي تتحقق على أرض الواقع.
ومن الخطأ أن نعزو التحولات الكبرى إلى جهود شخص واحد، لأنها في الحقيقة ثمرة عمل تراكمي يمتد لأجيال. قانون الحقوق المدنية الذي أعطى الحكومة الفيدرالية والأفراد العاديين السلطة القانونية لاجتثاث التمييز العنصري جاء بعد قرنين من العبودية والتمييز وعدم المساواة القانونية.
إذن كان زعيم حركة الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينج (1929-1968) حلقة من سلسلة طويلة من حلقات النضال من أجل الحرية والكرامة التي خاضها السود في أمريكا، إلا أنه أصبح الأشهر لأن في عهده جاء موسم الحصاد، والناس عادة يتذكرون موسم الحصاد جيدا ولا يكلفون أنفسهم عناء التفتيش عما قبل هذا الموسم من استصلاح للتربة وزرع للبذور وسقيها ورعايتها؛ فالثمار تشغلهم عن الجذور.
مارتن لوثر كينج استفاد بلا شك من جهود من سبقوه من أفراد كالمحاميين تشارلز هاملتون هيوستون وثيرغود مارشال، والمناضلة روزا باركس، ومن مؤسسات كالجمعية الوطنية لتقدم الملونين التي تأسست عام 1909 م ولا تزال تعمل حتى اليوم.
بالطبع لم يكن الرجل مجرد حاصد للثمار، بل كان رقما صعبا ومشاركا فاعلا في معادلة ما قبل الحصاد، وقدم في سبيل ذلك الكثير من وقته وجهده وآلامه وحياته في السجن وأخيرا حياته كلها حين اغتيل عام 1986 وهو يساند عمال جمع القمامة المضربين عن العمل في ممفيس بولاية تينيسي، وكان عمره 39 عاما.
في طفولته كانت مدينة أتلانتا حيث عاش تعج بأبشع مظاهر التمييز العنصري. كانت الأمهات البيض يمنعن أطفالهن من اللعب أو الاختلاط بأقرانهم السود، وكان هذا مؤلما جدا للطفل مارتن. غير أن أمه كانت تغرس في نفسه الثقة وهي تقول له: لا تدع هذا يؤثر عليك، بل لا تدع هذا يجعلك تشعر أنك أقل من البيض، فأنت لا تقل عن أي شخص آخر.
وهذا ما جعله يتفوق على أقرانه في الدراسة حتى حصل على الدكتوراة في الفلسفة من جامعة بوسطن.
قدم إلى مونتغمري المكان المناسب في اللحظة التاريخية المناسبة في سبتمبر 1954 م، أي قبل 14 شهرا من الصاعق الذي فجرته روزا باركس برفضها التخلي عن مقعدها لأحد البيض في الحافلة العمومية في نفس المدينة.
التقط مارتن هذه اللحظة بذكائه الوقاد، واستثمر قدراته التأثيرية والإقناعية من مهارة خطابية فائقة إلى شخصية كارزمية جاذبة إلى وعي دقيق بظروف المرحلة الحساسة وغيرها في إعادة توجيه الطاقات وتوظيفها في الطريق الصحيح للوصول للغاية المنشودة.
كان الشارع الأسود على وشك الانفجار الدموي بسبب استفحال التمييز والفصل العنصريين المتلبسَين لباس القانون، وكان بإمكان مارتن أن يساير الشارع ويلتهب معه، إلا أنه استطاع أن يوجه الشارع للمسار الأكثر جدوى من وجهة نظره.
فقد تبنى مارتن لوثر كينج نظرية غاندي في المقاومة اللاعنفية، وكرس حياته القصيرة مخلصا لها. فنادى بمقاطعة الحافلات العمومية التي تعمل بنظام الفصل العنصري في مونتجمري، فقبض عليه وأودع السجن مع مجموعة من السكارى واللصوص والقتلة زيادة في امتهانه وإذلاله.
وبعد الإفراج عنه بأربعة أيام، وبينما كان يخطب في أنصاره ألقيت قنبلة على منزله كاد يفقد بسببها زوجته وابنه، وحين وصل إلى منزله وجد جمعا غاضبا من الأفارقة مسلحين على استعداد للانتقام، وأصبحت مونتجمري على حافة الانفجار من الغضب، ساعتها وقف كينج يخاطب أنصاره: "دعوا الذعر جانبا، ولا تفعلوا شيئا يمليه عليكم شعور الذعر، إننا لا ندعو إلى العنف". وبعد أيام من الحادث أُلقي القبض عليه ومعه مجموعة من القادة البارزين بتهمة الاشتراك في مؤامرة لإعاقة العمل دون سبب قانوني بسبب المقاطعة.
وعندما قاد مع غيره من القادة الدينيين المنضوين في مؤتمر القادة المسيحيين الجنوبيين، المظاهرات وأعمال العصيان المدني للمطالبة بالحقوق المدنية، تصدى لهم مبشرون بيض في الجنوب، محذرين من عواقب عصيان إرادة الرب، بسبب تجاهل العقوبة الأبدية التي فرضها على "أبناء العم حام".
غير أن كل ذلك لم يُثنِه عن مواصلة نضاله لنيل السود حقوقهم المشروعة، وكان يقول: لا أحد يستطيع ركوب ظهرك إلا إذا انحنيت.
ولذا فقد رفض الانحناء وتمكن في نهاية المطاف من تشريع أهم قانونين في تاريخ النضال السياسي للسود في أمريكا:
- قانون الحقوق المدنية.
- وقانون حقوق التصويت.
للحديث بقية نتركها للمقال القادم بإذن الله.