اللاعنف: الطريق الصعب
المقاومة اللاعنفية لها منطقها الخاص الذي يركز على تحرير المجتمع وليس السيطرة عليه، فالهدف في الأخير هو إعطاء الحرية لكل المجتمع من شارك في التغيير ومن لم يشارك.
وهي بالتالي ليست بالعملية السهلة، بل تحتاج إلى إيمان راسخ بعدالة القضية واستعداد تام للذهاب إلى نهاية الطريق في سلمية تامة وانضباط شديد.
وبما أن الطريق ليست سالكة، فإن التحدي الأكبر يكمن في ابتكار الأساليب المختلفة لاجتياز العقبات وعدم الوقوع في الشراك التي ينصبها مقاومو التغيير لوقف المسيرة، فالوعي هو مفتاح رئيس في المقاومة اللاعنفية.
عندما خرج مارتن لوثر كينج وزميله رالف أبانارثي من السجن أدركا أن عددا محدودا جدا من عائلات السود يمكنها أن تتحمل وجود معيلها داخل السجن، فاستعانا بأحد الناشطين في حركة الحقوق المدنية هو القس جيمس بيفل للقيام بنشر التوعية بالمقاومة السلمية في صفوف الشباب.
قام بيفل بالمهمة خير قيام، فتم توعية طلاب الجامعات، وطلاب المدارس الثانوية، وحتى طلاب المدارس الابتدائية بمبادئ اللاعنف.
وآتت التوعية أكلها حيث أصبح هؤلاء يقومون بمسيرة إلى وسط المدينة، والدخول في الأماكن المخصصة للبيض من مطاعم ومكتبات عامة وكنائس بطريقة سلمية.
في مسيرة انطلقت يوم 2 مايو 1963 ألقي القبض على المئات من المتظاهرين الشبان وأودعوا سجن برمنغهام الذي اكتظ بهم. وفي اليوم التالي قرر مدير شرطة برمنغهام إيقاف المظاهرات بالقوة فاستعمل خراطيم المياه المضغوطة بقوة كما استخدم الكلاب لتفريق الجماهير.
أدرك المشاركون أن من المهم أن لا يُستدرجوا للرد على العنف بالعنف، واستوعبوا أحد المبادئ الأساسية في المقاومة اللاعنفية الذي يقول بأن فهم منطق القمع يلهمك الحل للتعامل معه، فإن كان هدفه إثناءك عن المطالبة بحقك، واصل المطالبة، وإن كان هدفه أن يجرك إلى العنف، تمسك بالسلمية واعلم أنها ليست ضعفًا، بل هي خطة الرد، وإن كان
هدفه إثارة قوى القمع ضدك، فاحرص على إجراء حوارات مستمرة معهم.. الخ.
لقد كان حاضرا في أذهانهم أن عدم الرد على العنف بالمثل لا يعني ضعفًا، بل ربما يتطلب شجاعة أكبر، وأن استمرار الاعتداء الوحشي من جهة قوات القمع، مع إظهار التحمل والجلد من جهة أصحاب القضية العادلة؛ هو ما يفتت قوى القمع. كما أدرك المشاركون أيضا أهمية توثيق الممارسات القمعية بكل الوسائل. ولذا لم يتوقف الشباب عن ممارسة التظاهر ولم تتوقف الشرطة عن خراطيم المياه والكلاب واعتقال الآلاف من الشباب والأطفال.هيمنت الصور وأفلام الفيديو والتقارير حول هذه الأحداث على نشرات الأخبار في أمريكا وخارجها، وساهم ذلك في كسب المتظاهرين المزيد من تعاطف الرأي العام معهم وإحراج السلطات. لقد وُضع الأمريكيون وجها لوجه أمام حقيقة وحشية نظام جيم كرو العنصري، وأمام المثالية الخلاقة التي اتسمت بها ردود أفعال السود برغم كل الاستفزازات والإهانات.
أما قطاع رجال الأعمال فلم يعد بإمكانه تحمل المزيد إذ تضررت مصالحه بشكل كبير، فتوصل لاتفاق مع كينج وزميل آخر له يقضي بأن تلغي المؤسسات والشركات في برمنغهام الفصل العنصري في المطاعم ودورات المياه وصنابير مياه الشرب الموجودة في مشروعاتها، وأن تتعهد بتوظيف وترقية السود وإطلاق سراح المتظاهرين المسجونين وإسقاط التهم عنهم.
هكذا تحقق انتصار آخر للسود في برمنغهام يضاف للانتصارات الأخرى في مجال التعليم والحافلات العمومية، وكذلك ما سبقها كإلغاء التمييز العنصري في القوات المسلحة عام 1948 م. وهكذا تعلم السود أن معركة استرداد الحقوق طويلة وأن ثمنها مكلف جدا، ولكن لا بد من دفعه إذا أرادوا الخلاص.
إن تشريع الحقوق المدنية الصادر عام 1964 وتشريع حقوق التصويت عام 1965 ما كان لهما أن يريا النور لولا ما سبقهما من نجاحات وتضحيات، فالمسألة كما نؤكد دائما تراكمية والتغيير لا يحدث فجأة. هذا هو منطق التاريخ.