فريدريك دوغلاس: المثقف العضوي
ممارسو التمييز أو الوأد الجماعي – كما يمكن أن نسميه- يحققون النجاح التام في مهمتهم عندما يقتنع الطرف الآخر موضوع التمييز أنه لا حول له ولا قوة، وأن هذا هو قدره الذي لا مفر منه، وأن ليس أمامه من خيار سوى الاستسلام وانتظار حدوث تغييرات خارجية في الوضع القائم. ولذا فإنهم يعملون جاهدين على ترسيخ هذه القناعة بكل الوسائل المتاحة.
إن إدراك هذه الحقيقة البسيطة يفتح للإنسان أفقا آخر للتعاطي مع التمييز بما يؤدي في النهاية إلى كشف سوءاته وإفشال مخططاته عن طريق رفض مقولات الهزيمة التي يروج لها ممارسوه، واعتباره واقعا طارئا يجب العمل على تغييره، والإيمان بأن التغيير يبدأ من الداخل للخارج وليس العكس.
هذا ما أدركه تماما فريدريك دوغلاس حين رفض أن يحدد لون بشرته كل مستقبل حياته فيبقى كما يريد أسياده المستبدون مجرد عبد ينفذ أوامرهم ويستجيب لرغباتهم، فقرر أن يسترد حريته وأن يكتشف ذاته فيطلق العنان لإمكاناتها الإبداعية المكبوتة.
لم يكن الطريق معبدا كما ذكرنا، ولكن الهدف كان يستحق السعي الجاد والتضحية المخلصة. بعد هروبه من العبودية بثلاث سنوات مريرة شارك في اجتماع جمعية ماساشوسيتس لمناهضة الرق عام 1841، فدعي لإلقاء خطاب أمام المجتمعين. استخدم مهاراته الخطابية للحديث عن الحرية، وكان حديثه مؤثرا مما جعل الجمعية تستأجره لإلقاء محاضرات عن تجاربه في الرق.
اختار دوغلاس لنفسه أن يكون مثقفا عضويا مندكا في هموم مجتمعه، مشاركا في صناعة التغيير. لم يكن هامشيا حتى وهو يؤدي بعض الأعمال الهامشية كجمع القمامة مثلا.
اعترض دوغلاس على التمييز العنصري في القطارات قبل أكثر من قرن من قيام روزا باركس برفض التخلي عن مقعدها لرجل أبيض، وعبّر عن اعتراضه بالركوب في العربات المخصَّصة للبيض، وكان حظه الطرد والإبعاد، كما اعترض على التمييز الدينيّ، وعبر عن ذلك بمقاطعة إحدى الكنائس التي كانت تحظر صلاة السود لحين فراغ البيض من صلاتهم.
وفي عام 1845م، نشر دوغلاس سيرة حياته في كتابه قصة حياة فريدريك دوغلاس. أثر كتابه حتى في العديد من الأمريكيين البيض وجعلهم يتخلون عن المفهوم القائل بأن العبودية شيء جيد، وأدركوا أن المجتمع العادل لا يمكنه السماح بهذه الممارسة.
ومع شهرته خاف أن يكتشف سيده أمره فيعيده للرق، فهاجر إلى إنجلترا، وهناك واصل هجومه على الرق بإلقاء المحاضرات لسنتين في إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا. بعدها اشترى أصدقاؤه حريته من مالكه السابق بدولارات معدودة لم تتجاوز السبعمائة هي ثمن حرية أحد أعظم رجال أمريكا.
عاد دوغلاس إلى أمريكا عام 1847 ليواصل نضاله ضد الرق، حيث أسس صحيفةً مناهضة للرِّق باسم نورث ستار أو نجم الشمال، وكانت أول صحيفة من عدة صحف أصدرها للترويج لقضايا حقوق المساواة للسود وللنساء.
وفي خمسينيات القرن التاسع عشر الميلادي، أثار دوغلاس قضية الإحلال الوظيفي الظالم، الذي يتم من خلاله إبعاد أحد السود عن وظيفته ليحل محله مهاجر أبيض، كل مؤهلاته أنه أبيض وكفى.
قاد دوغلاس أيضًا حملة ناجحة ضد التمييز العنصري في مدارس روشستر بولاية نيويورك. كما استثمر منزله الواقع على طريق أحد خطوط سكك حديد الأنفاق في تهريب الكثير من الأرقاء من الجنوب إلى الشمال باتجاه الحرية مساهما بذلك في جهود طائفة الكويكرز التي تصدت لهذا الأمر.
خلال الحرب الأهلية (1861-1865)، استثمر منصبه كمستشار للرئيس الأمريكي في تأكيد حق المواطنة للسود ودعا إلى تجنيدهم في الجيش الاتحادي، وهو ما حدث فعلا بعد أن أيد الرئيس لنكولن ذلك في العام 1863م، وكان قد سبق ذلك بأشهر إصدار إعلان تحرير الأرقاء الذي كان لدوغلاس دور كبير فيه من خلال مباحثاته مع الرئيس.
عمل دوغلاس في أكثر من موقع رسمي كان آخرها زيرًا مفوّضًا في هاييتي في الفترة من عام 1889م إلى 1891م. كما أصدر طبعتين أخريين من سيرته الذاتية الأولى بعنوان: عبوديتي وحريتي، والثانية بعنوان حياة وأيام فريدريك دوغلاس.
هكذا تمكن دوغلاس الذي ولد في كنف الرق ولم يعرف أباه الأبيض وماتت أمه السوداء وعمره 8 سنوات أن يكتشف ذاته وأن يصنع مستقبله الذي يريده لا الذي يريده له الآخرون، كما ساهم بفعالية في صنع مستقبل أفضل للسود بل الملونين كافة في الولايات المتحدة.