الإنجازات الفردية لها معنى جمعي أيضا
المجتمعات التي تتعرض للتمييز يصبح للنجاحات والإنجازات الفردية فيها معنى أعمق. فهي من جهة تبرز الكفاءات والطاقات والقدرات التي يتمتع بها هؤلاء الذين يتعرضون للتمييز، وأنهم لا يقلون شأنا عن غيرهم، مما يعزز الثقة على مستوى الجماعة كلها ويحفزها على المطالبة بالمساواة ورفع التمييز. كما أنها من جهة أخرى تفضح وتعري التمييز ذاته في كل مفصل من مفاصل النجاح، وتظهر عدالة القضية التي يناضل من أجلها المجتمع.
عندما يحقق شخص ما إنجازا فرديا في أي مجال من المجالات على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، ثم لا يجد في وطنه التقدير المناسب بسبب انتمائه لهوية تختلف عن الهوية المسيطرة، فإن هذا لا ينبغي أن يمر مرور الكرام، بل يجب أن يستثمر بشكل جيد لتعزيز العمل الساعي إلى تغيير الواقع الظالم.
ومما يساعد على تحقيق ذلك أمران:
يتعلق بالشخص الناجح نفسه، إذ عليه أن لا ينفصل عن قضية مجتمعه وهمومه لمجرد أنه اكتسب موقعا جديدا أو أصبح شخصية مشهورة أو ذات نفوذ. فالبعض – وللأسف – يحاول الانسلاخ عن هويته عندما يصل لمستوى من مستويات النجاح لأنه يشعر أنه هويته تشكل عائقا أمام استمرار تقدمه. وفي هذا نظرة قاصرة تنطوي على معالجة موضعية وآنية لا يمكن البناء عليها ولا تؤسس للعلاج الجذري.
يتعلق بالمجتمع الذي ينتمي إليه صاحب الإنجاز، إذ عليه أن يقدر هذا الشخص ويعطيه المكانة التي يستحقها، ويساهم في إبرازه وتعريفه للآخرين، حتى يكون ذلك حافزا له على تحقيق المزيد من الإنجازات، وتشجيعا لغيره على السير في طريق النجاح.
رالف بانش (1903-1971) هو نموذج من رجالات السود في أمريكا الذين حققوا نجاحات كبيرة على المستويين الأكاديمي والدبلوماسي. بدأ من الصفر حيث توفي والداه وهو لا يزال صبيا. والده كان يعمل حلاقا متجولا. كفلته جدته لأمه، ونظرا للظروف الاقتصادية الصعبة فقد قام بالعديد من الأعمال لمساعدة العائلة. عمل بائعا للصحف، وخادما في منزل، وعاملا في متجر سجاد، وغيرها من المهن، غير أنه كان يواصل تعليمه بجد واجتهاد حتى تخرج بامتياز من جامعة كاليفورنيا. ثم استمر في دراسته العليا في جامعة هارفارد بعد حصوله على منحة دراسية.
لم ينس بانش مجتمعه الأسود ومعاناته مع التمييز، فقام لاحقا بإنشاء دائرة العلوم السياسية في جامعة هوارد، والتي تعتبر جامعة السود التاريخية. وشكلت مقالاته حول التمييز العنصري مرجعا أساسيا لحركة الحقوق المدنية الأمريكية، كما شارك العالم الاقتصادي السويدي غونار ميردال بحثه المميز حول دراسة العلاقات العرقية الأمريكية، وعنوانه " مأزق أمريكي"، والذي أشارت له المحكمة العليا فيما بعد في إحدى أبرز قضايا التمييز في مجال التعليم والمعروفة بقضية براون.
شخصية أخرى كان لإنجازها الفردي معنى جمعي أيضا هو الرياضي لاعب البيسبول الأسود جاكي روبنسون، والذي استطاع من خلال إنجازه تغيير المفهوم السائد بين المسؤولين الرسميين عن المباريات ومالكي فرق البيسبول في بداية القرن العشرين والمتمثل في أن الاتحادات الرئيسة للبيض فقط. وكان على السود أن يلعبوا ضمن دوائرهم الخاصة في الاتحادات الزنجية.
في العام 1947 تمكن من كسر حاجز اللون بانضمامه لفريق دودجرز في ضاحية بروكلين المتنوعة، حيث كان أول أمريكي أسود يلعب في دوري البيسبول. تراوحت ردود فعل الجماهير تجاه هذه الخطوة بين التأييد والحذر والعداء الصريح، لكنه واصل طريقه ليغدو نجما ورمزا من رموز الرياضة حتى اعتبر عام 1962 أفضل لاعب بيسبول، فكان اللاعب الأسود الأول الذي يحظى بتكريم في قاعة مشاهير هذه اللعبة.
يقول أحد زملائه عنه:
" لقد قلت في أحيان كثيرة ان إنجازه غيّر لعبة البيسبول، ولكنه غيّر أيضاً البلاد، وفي نهاية المطاف غيّر العالم... سهّل جاكي الأمر لروزا باركس. سهّل الأمر لمارتن لوثر كنغ جونيور، وسهل الأمر لأي زعيم أسود كان سيسعى لتحقيق المساواة العرقية. فقد غيّر إنجازه بالأساس موقف البلاد بكاملها من حيث النظرة إلى السود." ويضيف: لقد حصل ذلك أيضاً ضمن الفريق. كان لدينا شباب جنوبيون ترعرعوا على تلك المجموعة من المعتقدات التي تنظر بازدراء إلى السود. كان على هؤلاء الأفريقيين الأميركيين الجلوس في المقاعد الخلفية للحافلات العمومية، وكانوا لا يستطيعون الشرب من نفس نوافير المياه التي يشرب منها البيض، ولا يحق لهم استعمال نفس دورات المياه. لكن في نهاية المطاف بدّل أولئك رأيهم.
أما روبنسون فيقول: "الحياة ليست مهمة إلا في التأثير الذي تتركه على حياة الآخرين."