مللنا السقي والساقي*
ماكل ما يعرف يقال يا أخي، هكذا كان يهمهم ممدوحٌ بحسرةٍ، عندما كان يعتزم الجلوس على دكةٍ ليراقب مشهد الغروب مع أخيه الأصغر سامر، ورغم هروبه المتكرر من الإجابة إلا أن سامراً كان يُلح بالسؤال مرة بعد أخرى، ومرة تلو الأخرى كان ممدوح ينهي الحديث الذي لا يكاد يبدأ بتلك الكلمات "ما كل ما يعرف يقال يا أخي".
سامرٌ صبيٌ لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، نشأ وسط عائلة من الطبقة الكادحة، في بيتٍ لا يكاد يلبي احتياج العائلة، فالأفراد في ازدياد والبيت متهالكٌ لم يتغير حاله منذ أن تم بناؤه، أما قبالته فأرضٌ خضراءَ ممتدة إلى أن ينتهي بك الأفق، سوى أن سياجاً قد ضُرب بينهم وبينها.
ما كان يشغل بال الصغير هو تاريخ العائلة المتخم بالقصص الفارهة، مزرعة كبيرة تعانق الشمس عند الشروق وتودع حمرتها مع الغروب، مالٌ وجاه، هكذا كانت جدته تحدثه كل يوم، فالجدة العجوز لا تجد سلوتها في أيامها القليلة المتبقية من عمرها إلا الحديث عن الماضي السحيق.
ذات يومٍ وبينما كان سامرٌ مشغولٌ بجز الحشائش لخرافه، سمع بعض الصراخ، توجه ناحية الصوت، شخصان يتشاجران! لم يعِ الصغير ما كان الكبار يتشاجرون من أجله، وجد لوحاً أسند إلى الجدار فتخفى خلفه و لارتباكه من هول ما يرى كان يسمع بعض الكلمات ويغفل عن أخرى، فقد كانت ضربات أخيه بالمعول على الأرض تخيفه، وزفراته الغاضبة توقف أنفاسه، ففضل الوقوف دون حراك إلى أن ينتهي الشجار.
عندما افترقا، كان ممدوح واقفاً لم يبرح مكانه، نظراته تجول مع امتداد الأرض الواسعة، ثم تتوقف بألمٍ عند السياج الذي يكبلهم، فتسقط دمعةٌ حاول إخفاءها، لكنها أكملت طريقها بمجرىً رسمته أصابعه فوق خدوده الملأى بالتراب. لمح سامرٌ عجلةً كانت بجانبه أخذها ورمى بها بعيداً، ثم أخذ يجري خلفها فخُيّل لممدوحَ بأن الجميع كان منشغلاً عن الشجار الذي حصل بينه وبين الغريب، التقط أنفاسه وتابع المسير نحو الحظيرة.
أسدل الليل ستائره، أشعل ممدوحٌ بعض الحطب وجلس يستدفيء بها خارج المنزل، وبينما هو سارحٌ بأفكاره، قطع السكون خطوات أخيه الأصغر التي انتهت وهو يربت على كتفه، أخي .. همس بها سامرٌ مستكملاً حديثه: هوّن عليك، فالشيب قد اشتعل برأسك وأخذ نصيباً من عمرٍ لم تقربه بعد! أعلم أنني ألحّ عليك بالسؤال ولا يكاد فضولي أن يستريح، ولكن .. صمت للحظات وأنزل عينيه لئلا تقعا خجلاً بعيني أخيه، و أردف مستغرباً: الشجار يا أخي، نعم الشجار هو ما زاد في حيرتي، ما القصة يا أخي، لمَ كان الشجار؟ ولماذا تغصّ حزناً وكمداً عند مرأى تلك الأرض؟! هل تتمناها لنفسك فلا تستطيع الحصول عليها؟ هل كان الغريب مالك الأرض؟!
كعادته حاول ممدوح الهروب ونهض من مكانه، إلا أن نظرات سامر له وبريق عينيه الغارقتين بالدموع جعلته يرمي بثقله على الكرسي مرةً أخرى، كان منكس الرأس تجول به الأفكار يمنةً ويسرى، وعند تمتمته بأول الحروف التي كانت تحاول كسر القيود التي غدت حبيسته، تحدثه نفسه بأنْ ليس كل ما يعرف يقال! فتعود حبيسةً كما كانت!
أخي، قالها ممدوحٌ بعد طول انتظار، توجه بعدها سامرٌ ليجلس بجانب أخيه وكله أذنٌ صاغية، لم تنبس شفتاه بأي كلمة، أراد فقط أن يسمع.
استدرك ممدوحٌ حديثه: أخي هل ترى تلك الأرض؟ قالها وهو يشيح نظره عنها، نعم تلك الأرض كانت لنا! ورثها والدنا عن جدنا وجدنا عن أجدادنا، كانت لنا! عبثاً ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ ساخرة حملت معها كل الألم! رفع رأسه إلى السماء يحتسب أمره إلى الله، كان سامر لحظتها مقطباً حاجبيه، مرتسمةٌ في ذهنه استفهامات كثيرة، فلا يزال يطلب المزيد، تلك الأرض؟! قالها سامرٌ باستغراب.
نعم يا أخي، مكملاً ممدوحُ ما ابتدأ: سوى أن والينا المعظم، كان يحب أن يضع يده على كل ما هو جميلٍ أبدع فيه صانعوه. وذات يوم وقع اختياره على مزرعتنا، التي كانت حينها أكبر مزرعة بين نظيراتها، مزرعتنا التي كانت تعجّ بالمواشي، أبقارٌ ولود وأخرى حلوب، نخيلٌ باسقات، وأشجار أثقلت أغصانها كثرة الثمار، فقد كانت تغذي أهل القرية مما لذ وطاب، وخضرةٌ تسر ناظريها، يشقها جدول ماءٍ يصب من بئرٍ حفرناه بأيدينا.
لم يحتمل الوالي حديث حاشيته عند وصفهم إياها، وكأنها عروسٌ يريد استعجال مقدمها! بعد أيام قلائل سمعنا أصواتاً غريبة بالقرب من المنزل، كان الجميع على مائدة الإفطار، توجه والدي ليستطلع الأمر، لكنه تأخر! فهرعنا مسرعين نحوه لنجد حرس الوالي يجبرونه على الرحيل، وهم يضعون السياج حول المزرعة دون سابق إنذار! حاول أن يقاوم، أن يدافع عن حقه فيها، أن يلاقي الوالي. لكنه وجد نفسه وحيداً، فأهل القرية أناس بسطاء، اعتادوا الخوف حتى من أنفسهم إن بالحق سراً حدثوها، كانوا خائفين حينها من البطش الذي قد يلحقهم، خائفين على لقمة عيشهم التي اعتادوا دفع نصفها لبيت المال غصباً، رغم حاجتهم إليها! بيت المال الذي لم نرَ منه ما يلبي للقرية أدنى احتياجاتها!
ورغم التحدي الذي أبداه والدنا إلا أن أجزاء من مزرعتنا قد نُهبت! بدأ بعدها الزرع بالذبول، فالمزارعون فضلوا تركنا والعمل خلف السياج، كان الصمت سهماً يفتت أحشاءه، فسقمه كان يزداد سوءاً مع مرور الأيام، وبعد بضعة أشهرٍ توفي وهو حبيس صمته. توقف ممدوحٌ عن الحديث وأخذ يمسح بكلتي يديه تلك الدموع التي لم يستطع حبسها، أما وجه سامر فكان يحمل تعابير متناقضة والصمت قد أطبق شفتاه، أكمل الأخ بصوت متقطعٍ حزين: حضر الوالي مراسم الدفن، وسط دهشةٍ من أهالي القرية، فهذ الوالي بشحمه ولحمه، هو ذاته الوالي الذي لم تلمحه عينٌ قط! وما هي إلا دقائق حتى أفصح بتعازيه لنا: إما أن يتم تسليم بقية المزرعة، أو لا أرض لكم هنا تستحق جثة والدكم أن تدفن فيها!
قاطعه سامرٌ: والبيت يا أخي؟! أجابه ممدوحٌ وهو يتنهد بسخرية: تعفّف والينا المعظم عن أخذه، واعتبره مكرمةً أهدانا أياها وسط تصفيق الجميع! أو قل وسط حسد الجميع!
أما الغريب فقد كان حاجب ابنه جاء ليخرجنا من بيتنا، ليُسكن فيه مزارعيه!
عنوان القصة مقتبس من قصيدة (التأشيرة) للشاعر المصري هشام الجخ.
