الوعي بحقوق الآخر
يمكن أن نطلق على عالم اليوم (عالم الحقوق)، لا لأن الناس حصلوا على حقوقهم وانتهى كل شيء، ولكن لأن الحديث الحقوقي اليوم أصبح مالئ الدنيا وشاغل الناس.
الشعوب تتحدث عن حقوقها في المشاركة السياسية والانتخاب والحرية والعدالة وما إلى ذلك من المفردات؛ والأفراد تتحدث عن حقوقها كأفراد، والجماعات كجماعات.
ما نريد التركيز عليه هنا هو أن الإنسان قد ينشغل ويهتم كثيرا بمعرفة حقوقه، وهذا شيء مستحسن ومطلوب. ولكن المشكلة تكون حين يتجاهل الواحد منا الحقوق التي عليه، لأن ذلك سيؤدي إلى معرفة ناقصة، ويكشف عن أنانية تزيد المسألة سوءا.
حين يبحث الوالد عن حقه دون أن يسأل عن حق ولده عليه، وحين يسأل الزوج عن حقه دون أن يلتفت إلى حق زوجته عليه، وحين يحفظ المعلم حقه وينسى حقوق طلابه عليه، وحين يهتم الحاكم بحقه ويهمل حقوق شعبه عليه، وحين يحاسب رب العمل العامل على كل صغيرة وكبيرة ويضيع حقوق عماله عليه، وحين، وحين....
حين يحدث ذلك تتصاعد وتيرة الأزمات، ويتحول المجتمع إلى بيئة صالحة لإنتاج التشوهات النفسية والصراعات البينية التي لا تنتهي عند حد.
نقرأ أو نسمع أو نشاهد كل يوم في وسائل الإعلام المختلفة الكثير من القصص التي يتفنن فيها البعض بانتهاك حقوق الآخر بأبشع صورة ولأتفه الأسباب في مجتمع يفترض أنه يتخذ الإسلام دينا والقرآن كتابا.
أب يضرب ابنته حتى الموت بداعي تأديبها، معلم يعتدي على طالب أمام زملائه بالضرب المبرح بسلك كهربائي، زوجة تعتدي على زوجها بالضرب وتحدث به إصابات خطرة برأسه, زوج يحبس عائلته أكثر من 10 سنوات، أحدهم يطلق زوجته بسبب "حشوة سمبوسة".. وهلم جرا من الحوادث الحقيقية وليست الخيالية التي تخلو من الإنسانية تماما ويكون العنف الجسدي فيها مصحوبا بأبشع التجاوزات اللفظية، والتي لا تقيم لحق الآخر وزنا أو قيمة. يحدث هذا على مستوى العلاقات الاجتماعية في مختلف دوائرها.
إن هذه الحوادث وأمثالها تكشف في جانب منها عن قصور شديد في المعرفة بالحقوق الخاصة والعامة، فالوالد مثلا قد يتصرف مع أبنائه بكل قسوة بداعي الحرص على تنشئتهم والحفاظ على مستقبلهم، دون أن يدرك حدود ولايته، أين تبدأ وأين تنتهي. "وعلى هذه فَقِس ما سواها".
حين نراجع النصوص الشريفة خصوصا رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين سنلحظ التركيز الشديد على ضرورة الوعي الحقوقي لدى كل واحد منا في كل فعل أو تصرف يقوم به.
ينبه الإمام السجاد في بداية رسالته التي تشمل خمسين حقاً على الإنسان، ابتداءً من حقوق الله تعالى إلى حق نفسه ومحيطه ومجتمعه ودولته، وحقوق أهل الأديان الأخرى، إلى هذا الأمر الخطير قائلا:
"اعْلَــــمْ رَحِـــــمَكَ اللهُ أَنَّ للهِ عَلَيْكَ حُــــقُوقًا مُحِيطَةً بكَ فِي كـُلِّ حَرَكَةٍ تَحَرَّكْتَهَا، أَوْ سَكَـــــنَةٍ سَكَنْتَهَا، أَوْ مَنْزِلَةٍ نَزَلْتَهَا، أَوْ جَارِحَةٍ قَلَّبْتَهَا، وَآلَةٍ تَصَرَّفْتَ بهَا، بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ".
إذن نحن محتاجون إلى معرفة حقوقية شرعية تضبط تصرفاتنا حتى لا نتجاوز حدودنا فنقع فيما لا نرضاه لأنفسنا من ظلم واعتداء وانتهاك. ولعل من أعظم التوجيهات التي تؤكد على ضرورة أن يكون كل سلوك قائما على معرفة صحيحة هو ما ورد في وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حين قال لتلميذه النجيب كميل بن زياد النخعي:
"يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة".
إن على منابرنا الإعلامية والوعظية والإرشادية تكثيف التركيز على المسائل الحقوقية بكافة مستوياتها الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها من أجل خلق مجتمع المعرفة الذي ينشده أئمتنا والذي يجمع بين أداء الحقوق المفترضة عليه والمطالبة بالحقوق التي له.