درس من فاطمة
كيف تستطيع امرأة أن تصعد سلم الكمال الإنساني لتصل درجاته العليا بسرعة الضوء، بل أسرع؟
كيف يمكن لفتاة أن تبلغ مرتبةَ أن يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، كما حدثه الحاكم في مستدركه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة:" إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك". وعلق على الحديث قائلا: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه." أي لم يخرجه البخاري ومسلم.
كيف يمكن لفتاة أن تبلغ أعلى مكانة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقول فيها، كما في صحيح البخاري: " فاطمة بضعة مني، من أغضبها فقد أغضبني". أو كما في صحيح مسلم: " إنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها".
النبي صلى الله عليه وآله لا يصدر حديثه هنا عن عاطفة أبوية جياشة، وهو الأب العطوف الرؤوف الرحيم الذي لا يشوب حديثه أي شائبة من هوى.وقد قال عنه القرآن الكريم كما في سورة النجم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ .
كيف وصلت فاطمة وهو لا تزال في ريعان شبابها إلى أن تحتل مرتبة الأمومة لأبيها أفضل الخلق أجمعين. فقد ذكر الطبراني في معجمه الكبير أن من كُنى فاطمة أنها أم أبيها.
المراتب التي وصلت إليها سيدة نساء العالمين لم تنلها بالنسب وكونها بنتا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع ما لذلك من شرف عظيم. ولكن المراتب المعنوية لا تُنال إلا بالجد والاجتهاد؛ فلا مجاملة ولا وساطة لبلوغ تلك المقامات السامية.
نحن نقرأ في دعاء الندبة: " اللـهم لك الحمد على ما جرى بِهِ قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لِنفسِك و دينِك ، إذِ اخترت لهم جزيل ما عِندك مِن النعيمِ المقيمِ الذي لا زوال له و لا اضمِحلال ، بعد أن شرطت عليهِم الزهد في درجاتِ هذِهِ الدنيا الدنِيةِ و زخرفِها و زِبرِجِها ، فشرطوا لك ذلِك و علِمت مِنهم الوفاء بِهِ فقبِلتهم و قربتهم ، و قدمت لهم الذكر العلِي و الثناء الجلِي".
فالشرط للحصول على النعيم المقيم هو الزهد في الدرجات الدنية. أي أن شرط الوصول للأعلى هو الزهد في الأدنى.
لقد علمها رسول الله صلى الله عليه وآله هذا الدرس البليغ، حين قال لها: " يا فاطمة اصبري على مرارة الدنيا لتفوزي بنعيم الأبد" وحين قال لها أيضا " يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة".
وقد استوعبت البنت الدرس استيعابا كاملا، فكانت مثال الممتحنة الصابرة في كل مفاصل حياتها الشريفة. ولذا بلغت ما بلغت عن جدارة واستحقاق.
لا أريد في هذه العجالة ذكر المواقف الكثيرة التي تكشف عن تطبيقها العملي للدرس النبوي، فذلك يحتاج إلى مساحة أكبر. ولكني أريد التركيز هنا على الدرس الكبير الذي يمكن أن نتعلمه منها نساء ورجالا، وهو أن من يريد أن يصل إلى المقامات الرفيعة وقرب المنزلة من الله، فعليه أن يكون زاهدا حقيقيا في درجات الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها.
باختصار: من يريد العلو لا ينشغل بالسفلي.