الحرية تبدأ من العبودية
إذا كان حق الله الأكبر علينا أن نعبده ولا نشرك به شيئا، فلماذا يريدنا الله تعالى أن نفعل ذلك؟ وهل الله بحاجة لخلق بشر يعبدونه؟ هل تزيد عبادتنا في ملكه شيئا، أو ينقص كفرنا من ملكه شيئا؟
والجواب بالطبع: كلا، فالله هو الغني المطلق، كما قال تعالى في سورة ابراهيم:﴿وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)﴾
إذن لماذا يريدنا أن نصل إلى مستوى العبودية المحضة؟ وهل العبودية إلا تقييد لحرية الإنسان تمنعه من الانطلاق والانعتاق؟
الجواب على ذلك يكمن في فهم المعنى الحقيقي لعبودية الله سبحانه، إذ هي ليست كباقي العبوديات التي عرفها البشر والتي اقترنت بالذل والهوان والصغار. بل هي عبودية تمنح الإنسان ما يحتاجه من أمن لينطلق في الآفاق دون خوف من سلطة غاشمة أو ضغط من حاجة أو هوى يهوي به في مكان سحيق.
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) سورة الأنعام.﴾
لا يمكن للإنسان أن يمارس حريته التامة في أجواء الخوف والإرهاب والضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها. لذا فإن المراد من العبودية الحقة هو صعود الإنسان إلى الأعلى متحررا من جاذبية الأرض وأثقالها التي تشده للأسفل وتريد أن تبقيه ﴿كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ، هَمُّهَا عَلَفُهَا، أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغْلُهَا تَقَمُّمُهَا.﴾
كما يقول علي الذي عاش العبودية بأعمق معانيها، وذاق حلاوة حريتها، فقال: إلـهي كَـفى بـي عِـزّاً أنْ اَكُـونَ لَـكَ عَـبـْداً، وَكَـفى بـي فَـخْـراً أنْ تـَـكُـونَ لـي رَبـّـاً، أنـْـتَ كَـما اُحِـبُّ، فـَـاجْـعَـلـْـنـي كَـما تُـحِـبُّ ".
هكذا صنعت العبودية الأحرار وصانعي الحرية الحقيقيين على مدى التاريخ. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء مبشرا بالحرية داعيا إليها:﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) سورة الأعراف 157﴾
وذلك بعد أن بلغ مرتبة العبودية الخالصة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) سورة الفرقان.﴾
إن المشكلة التي يعاني منها خطابنا الديني أحيانا أنه يركز على العبودية والعبادة باعتبارها تكليفا منفصلا عن سياقه ومنظومة المفاهيم المتكاملة المرتبطة به.
وهذا يؤدي إلى إنتاج إنسان يقوم بوظائفه الشرعية دون أن يذوق لذة العبادة ونشوة الانتصار على النفس وشهواتها وطعم العروج إلى الله تعالى؛ وبعبارة أخرى إنسان يمارس العبادة دون حب، وبالتالي فإنه معرض لتركها عند أدنى عارض أو طارئ.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) سورة الحج.﴾
أما عباد الله الحقيقيون فإنهم يقومون بأداء التكاليف الشرعية بدافع الحب لجمال الله وكماله المطلق، فيشعرون بشرف العبودية ويذوقون حلاوة القرب ولذيذ المناجاة. وهم أيضا من يدركون أن الحرية تبدأ بالعبودية، حيث لا سلطان لشياطين الجن والإنس عليهم.
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) سورة الإسراء.﴾
إذا فهمنا العبودية على أنها طريقنا للحرية، فستتغير نظرتنا للعبادات كافة، وستتغير طريقة أدائنا لها، وستصبح حياتنا بأسرها قطعة من العبودية الرافعة، لا العبودية الخافضة الواضعة.