حق النفس
( وأما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله، فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك...) من رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين .
قد ينشغل المرء بكل شيء وينسى أقرب الأشياء إليه وأهمها لديه، إذ هي مربط تقرير المصير الدنيوي والأخروي، فإما سعادة حقيقية في الدنيا تؤدي إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما شقاء حقيقي في الدنيا يفضي إلى نار أعدها جبارها لغضبه.
إنها النفس وما أدراك ما النفس التي يقسم بها الله عز وجل قسما عظيما في سورة الشمس:﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)﴾
ونظرا للأهمية البالغة للنفس في عالم الحقوق، فقد جاء الحديث عن حقها بعد حق الله تعالى، ذلك لأنها أقرب الدوائر التي يجب على الإنسان أن يحدث فيها التغيير الإيجابي، أو التزكية بالمصطلح القرآني، قبل أن ينتقل إلى دوائر أخرى، إذ فاقد الشيء لا يعطيه.
والإنسان رغم حبه لنفسه، إلا أنه قد يرتكب في حقها أفدح أنواع الظلم فيوردها المهالك إذا لم يعرف حقوقها عليه، ولذا احتلت معرفتها مكانة عالية، حيث اعتبرت طريقا إلى معرفة الله تعالى. يقول الإمام علي :" من عرف نفسه فقد عرف ربه"، ويقول مبينا أثر معرفة النفس في تحصيل الفوز والفلاح:" نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس".
والنفس في المنظور الإسلامي هي أغلى ما يملك الإنسان : "إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها"، وتحصيل الجنة لا يكون إلا عن طريق إعطاء النفس حقها المتمثل في صرفها كاملة في طاعة الله تعالى، وذلك بتخليتها وتحليتها؛ تخليتها من الذنوب والأدران والشوائب والكدورات، وتحليتها بالإيمان والتقوى والإخلاص والعمل الصالح، وهما أي التحلية والتخلية يشكلان معا الجهاد الأكبر حسبما وصفه النبي ، وهو أفضل الجهاد بل غايته كما في الرواية: "غاية المجاهدة أن يجاهد المرء نفسه".
نحن إذن في معركة دائمة لا هدنة فيها أبدا مع النفس، إما أن نوفيها حقها بتزكيتها فنكون من الفالحين، وإما أن نبخسها حقها باتباع شهواتها وأهوائها فنكون من الخائبين. بالطبع هذه المعركة ليست قتلا للنفس، بل هي لإحيائها وتحويلها إلى نفس مطمئنة لا تجزع إن مسها الشر، ولا تمنع إن مسها الخير.
﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)﴾ سورة الأنعام.
ولأن النفس هي المدبرة والمتصرفة في كل الجوارح، والجوارح آلاتها تستعملها كيف شاءت في طاعة الله أو في معصيته، فقد بين الإمام تفصيل ما أجمله في المقصود من استيفاء النفس في طاعة الله تعالى، وذلك بأداء حقوق الجوارح، وهو ما سنتعرض له في المقال القادم.