حديث من الداخل
الإنسان المعاصر مُجبر على مواجهة مسألة الغير . ولم يكن مُستعداً لها ، لكن الحقيقة هي أن مسألة الغير ليست جديدة ، وقد أصبح واضح الآن أن لا إنسان دون مجتمع إنساني ، أمّا بالنسبة إلينا فالغير حتى الآن أمّا أتباع لنا وهم من نعتمد عليهم ، ومن يتحقق اتفاقنا وإياهم طبيعياً وعضوياً بالتزاوج ، وبالعائلة ، وبالمستوى المجتمعي ، وبالمواطنة وغيره من عوامل الإتفاق ، وأمّا أعداء ، ونعني بهم منافسينا وخصومنا الذين يعملون لتأخيرنا ولتهديمنا .
ولكن هذا هو الكوكب الأرضي الذي يغزوه الإنسان ، فيغيِّر وجهه ، وهذه هي أكثرية الناس لم تكن قط بمفردها في مواجهة الطبيعة العذراء ، ومجمل هؤلاء تقريباً يصبح عاجزاً عن أن يحيا أكثر من بضعة أيام في صفة فردية منعزلة عن الطبيعة الإنسانية ، وليس المقصود هنا هو طبيعة تشاؤمية ، ولكن إلقاء ضوء للجلاء عن حقيقة الوجه الإنساني المعاصر ، فبعد أن أخضع الإنسان لسلطانه سطح هذا الكوكب الذي يحمله راح يخلق بيديه إمكان خراب هذا المحمل !!
إذاً خطر هذا الخراب لم يعد خطر الطبيعة ، كما أنه لم يعُد خطر الآخرين ، والتكافل الواقعي الذي تفرضه إمكانية الرؤيا المظلمة ترينا أن الخطر الأعظم ، الذي يهددنا ، هو نحنُ أنفسنا ، وهكذا انتقلنا من مسألة الآخرين إلى مسألة الغير ، والغير هنا يعني " الآخر فينا " الذي نتناول معه علاقات أقرب شبهاً إلى محاورات داخلية نتبادل فيها أطراف الحديث بيننا وبين أنفسنا ، منها إلى مناظرات مع آخر هو بشكلٍ ما ، غريب ، مواجه لنا ، سواء أكان خصماً أو حليفاً ، ولكنه دائماً خارجي ، فالحوار مع الغير فينا يقفز إلى سُدّة الأولويات على الجدال مع الآخرين من حولنا .
ونحنُ لسنا على استعداد للحوار مع الغير ، ولا للحياة مع أنفسنا ، ففكرتنا المعتادة في الجدال هي المعارضات ، والمعارك ، والفتوح ، ولا يمكن أن نتصورها كوناً آخر غير المناظرة ، وثقافتنا ولغتنا ، هي الأداة التي منها نصوغ فكرتنا ، تغمران حياتنا الذهنية ، ثم تضعان شروطاً لصيغة معرفتنا ، يعني : امكانياتنا ذاتها في معالجة شؤون حياتنا ، فمن واجبنا - والحال كهذا - أن نعيد إمتحان كلماتنا مفردة .. مفردة .. لنكون قادرين على فهم عالمنا الجديد ، واليوم مثلاً ، ماذا تعني كلمة خصم أو عدو في كون أصبح فيه خلافاً لكل مؤالفاتنا في التفكير ، الخطأ أو فقدان رباطة الجأش خطراً مُهدِّداً بأن يصبح سبباً لضياع حياتنا .
إنّ الإنسان قد تعوّد في مجرى آلاف السنين ، أن يُدافع عن حياته ، ويؤمِّن ازدهار وجوده ضد الطبيعة والآخرين ، ولهذا فهو من خلق علمه ، وفلسفته ، وأساطيره ، وميثولوجيته ، ضماناً لفهم هذه الغزوات ، وبعث الحماس فيها ، والقدرة على إرساء مفاهيمها ، ولكن هل عرف أن يفهم الآخر كعنصر لهذه الطبيعة ؟ غير أن هذا التطبع الذي مارسه الإنسان قد حال بينه وبين بناء طريقة فكر، وتقنية بحث ، وإيجاد وسائل علميّة تمكنه من أن يقود هذا التطبع عندما كان يجب أن ينصبّ بكل مستطاعه العقلي على فهم هذا الموضوع الأصيل الذي هو نفسه. وهكذا يُفهم لماذا تخلّفت العلوم الإنسانية مئة مرة عن العلوم الطبيعية بالرغم من محاولتها مُحاكاتها بإستمرار .