حق الصوم
وَأَمَّا حَقُّ الصَّوْمِ فَأَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ حِجَابٌ ضَرَبَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِكَ وَسَمْعِكَ وبَصَرِكَ وَفَرْجِكَ وبَطْنِكَ لِيَسْترَكَ بهِ مِن النَّارِ وَهَكَذَا جَاءَ فِي الْحَديثِ "الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ" فَإنْ سَكَنَتْ أَطْرَافُـكَ فِي حَجَبَتِهَا(الحجبة : جمع حاجب) رَجَوْتَ أَنْ تَكُونَ مَحْجُوبًا. وَإنْ أَنْتَ تَرَكْتَهَا تَضْطَرِبُ فِي حِجَابهَا وتَرْفَعُ جَنَبَاتِ الْحِجَاب فَتَطّلِع إلَى مَا لَيْسَ لَهَا بالنَّظْرَةِ الدَّاعِيـَةِ لِلشَّهْوَةِ وَالقُوَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ التَّقِيَّةِ للهِ لَمْ تَأمَنْ أَنْ تَخرِقَ الْحِجَابَ وَتَخرُجَ مِنْهُ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.
الصوم كما قال الفقهاء هو الإمساك عن المفطرات بقصد القربة. فهو إذن ممارسة سلبية تقوم على ضبط النفس ومنعها من أشياء معينة امتثالا لأمر الله تعالى بُغية التقرب منه ونيل رضاه، وتحصيلا لملكة التقوى.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ?ُتِبَ عَلَيْ?ُمُ الصِّيَامُ ?َمَا ?ُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ?ُمْ لَعَلَّ?ُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ ﴿البقرة﴾
والصوم بهذا المعنى العميق أضخم دورة تدريبية في مجال إدارة الذات يدخلها الناس طواعية، فيتخرجون منها وقد قويت إرادتهم وأصبحوا أكثر قدرة على السيطرة على شهواتهم. هذا بالطبع إذا التزموا بحق الصوم فعلا.
وحق الصوم كما يبينه الإمام علي بن الحسين عليه السلام هو العلم بماهية الصوم حقيقة، وما يمثله من حجاب واقية من النار على جميع الحواس، ثم العمل وفق هذا العلم. يقول الإمام علي عليه السلام: "صوم الجسد الإمساك عن الأغذية بإرادة واختيار خوفا من العقاب ورغبة في الثواب والأجر، صوم النفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب من جميع أسباب الشر".
فالمسألة الأهم في الصوم أن يتكامل صوم الجوارح مع صوم الجوانح كي تتحقق الأهداف المبتغاة منه، وبدون هذا التكامل لا يحصد الصائم من صومه سوى الجوع والعطش. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر". وقال صلى الله عليه وآله سلم لامرأة صائمة تسب جارية لها:" كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟! إن الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجابا عن سواهما من الفواحش من الفعل والقول يفطر الصائم، ما أقل الصوام وأكثر الجواع!".
ويفصل الإمام زين العابدين عليه السلام هذا الأمر في دعائه إذا دخل شهر رمضان، والمذكور في صحيفته السجادية بقوله:" وأعنا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نصغي بأسماعنا إلى لغو ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلا ما أحللت، ولا تنطق ألسنتنا إلا بما مثلت، ولا نتكلف إلا ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلا الذي يقي من عقابك".
فالإمام السجاد يطلب العون من الله تعالى على صيام حقيقي تكف فيه كل الجوارح عن ارتكاب المحارم واكتساب المآثم، وما أصعبه وأشده من صيام يحتاج تحقيقه بالفعل لتوفيق الله وتأييده. وهو ما أكدته الرواية التالية عن الإمام الباقر عليه السلام إذ يقول: "قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لجابر بن عبد الله : يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردا من ليله وعف بطنه وفرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر ، فقال جابر : يا رسول الله ما أحسن هذا الحديث ؟ ! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):يا جابر وما أشد هذه الشروط ! ؟ ".
إن تحقيق شروط الصوم اليوم صعب مستصعب، ولكنه الخطوة الأساسية في طريق التحدي والإصرار على تربية النفس ورفعها إلى مرتبة الإنسانية الحقة، حتى لا تبقى أسيرة لرغباتها وأهوائها وانشدادها إلى العالم السفلي المعيق لانطلاقها وصعودها وعروجها في عالم الملكوت.
للأسف يمتنع كثير من الناس عن الأكل والشرب وسائر المفطرات المذكورة في المتون الفقهية، إلا أن ذلك لا ينعكس على أبصارهم وأسماعهم وألسنتهم وأيديهم وبقية جوارحهم. يكفون عن الطعام، ويطلقون العنان لأبصارهم وأسماعهم لمتابعة المسلسلات التافهة والأفلام الماجنة والأغاني الساقطة، ولألسنتهم للكذب والغيبة والبهتان والنميمة، ولأيديهم بسرقة المال العام وحقوق الآخرين والضرب غير المشروع حتى لأقرب الأقربين، ولأرجلهم بالسعي في طريق الرذيلة ونشر الفساد.
إن صوما كهذا سيطالب صاحبه بحقه يوم القيامة، وسيكون – والعياذ بالله – وبالا عليه لأنه لن يشكل حجابا ساترا وحاجزا مانعا بينه وبين النار.