حق السلطان
فأَمَّا حَقُّ سَائِسِكَ بالسُّلْطَانِ فَأَنْ تَعْلَمَ أنّكَ جُعِلْتَ لَهُ فِتنَة وأنَّهُ مُبْتَلىً فِيكَ بمَا جَعَلَهُ اللهُ لَهُ عَلَيْكَ مِنَ السُّلْطَانِ وَأَنْ تُخلِصَ لَهُ فِي النَّصِيحَةِ وَأَنْ لا تُمَاحِكَهُ ( لا تخاصمه ولا تنازعه) وَقَدْ بُسِطْتَ يَدُهُ عَلَيْكَ فَتَكُونَ سَبَبَ هَلاكِ نفْسِكَ وَهلاكِهِ. وتَذَلَّلْ وتَلَطَّفْ لإِعْطَائِهِ مِنَ الرِّضَا مَا يَكُفُّهُ عَنْكَ وَلا يَضُرُّ بدينِكَ وتَسْتَعِينُ عَلَيْهِ فِي ذلِكَ باللهِ. ولا تُعَازَّهُ( لا تعارضه في العزة أو لا تغالبه) ولا تُعَانِدَهُ فَإنَّكَ إنْ فَعَلْتَ ذلِكَ عَقَقْتَهُ (عققته : عصيتَه وآذيته) وَعَقَقْتَ نَفْسَكَ فَعَرَضْتَهَا لِمَكرُوهِهِ وَعَرَضْتَهُ لِلْهَلَكَةِ فِيكَ وَكُنْتَ خَلِيقًا أَنْ تَكُونَ مُعِينًا لَهُ عَلَى نفْسِكَ وَشَرِيكًا لَهُ فِيمَا أَتى إلَيْكَ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.
السلطة أمانة في عنق صاحبها، وليست مغنما من المغانم ومكسبا من المكاسب. السلطة تكليف بأداء التزامات معينة تجاه المعنيين بها، وليست تشريفا ومقاما يبعث على التكبر والتطاول على الناس. والسلطة هي عقد اجتماعي بين طرفين، بين الراعي والرعية، يلزم على كل منهما حقوق للآخر. يقول الإمام علي عليه السلام مبينا أهمية أداء هذه الحقوق المتبادلة، وأن الإخلال بها سبب للفرقة وانتشار الظلم واستشراء الفساد المعبر عنه بالإدغال في الدين:
"أمّا بعد، فقد جعل الله سبحانه لي عليكم حقّاً بولايةِ أمركم، ولكم عليَّ من الحقّ مِثلُ الذي لي عليكم... وأعظَمُ ما افتَرضَ سُبحانه من تلك الحقوق: حقّ الوالي على الرعيّة، وحقّ الرعيّة على الوالي، فريضةٌ فَرَضَها اللهُ سبحانه لكلٍّ على كُلّ، فجعلها نظاماً لأُلفتهم، وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعية؛ فإذا أدَّت الرعيّةُ إلى الوالي حقَّه، وأدّى الوالي إليها حقَّها عَزَّ الحقُّ بينهم، وقامت مَناهجُ الدين، واعتدلت معالمُ العدل... وإذا غَلَبت الرعيّةُ واليها، أو أجحَفَ الوالي برعيّته، اختلفت هنالك الكلمةُ، وظهرت معالمُ الجَور، وكَثُر الإدغال في الدِّين، وتُركت مَحاجّ السُّنن، فعُمل بالهوى، وعُطّلت الأحكام..."
وفي رسالته للأشعث بن قيس واليه على أذربيجان نشهد تركيزا كبيرا على موضوع السلطة/الأمانة، حيث يقول:
"وَإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَأَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ؛ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَلاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَةٍ وَفِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اَللَّهِ تَعَالَى وَأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ.."
لذا كانت السلطة فتنة كما عبر عنها الإمام علي بن الحسين في هذا المقطع من رسالة الحقوق. والمقصود من الفتنة أنها محل اختبار للراعي والرعية ينجح فيه القليل ويفشل فيه الكثير. والحديث هنا عن حقوق السلطان العادل على رعيته، وسيأتي في مقام آخر الحق المقابل للرعية على السلطان.
وتتمثل هذه الحقوق في التالي:
- إعانته على النجاح في الاختبار الذي يتعرض له.
- تقديم النصيحة الخالصة له. وهذا يعني أن لا يقف الشعب موقف المتفرج من السلطة، بل عليه أن يكون مشاركا فعالا في شؤونها.
- طاعته في كل ما فيه لله رضا، وعدم الدخول معه في خصومات ونزاعات.
- توقيره وإعطاؤه المكانة اللائقة به.
- عدم إيجاد سلطة منافسة له أو بديلة عنه، ومنع تداخل الاختصاصات؛ فالمطلوب أن يعمل كل في حقله. هذا ما يمكن أن يفهم من قوله : "ولا تُعَازَّهُ ولا تُعَانِدَهُ".
إن فهم كل طرف للحقوق التي عليه هو المدخل لاستقرار الأوضاع السياسية، واستتباب الأمن، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وقد أرسى الإمام علي دعائم هذه الثقافة الحقوقية في الأمة موضحا لجميع أفرادها ما لهم وما عليهم من حقوق:
"أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً، ولكم علَيَّ حقّ: فأمّا حقُّكم عليَّ فالنصيحةُ لكم، وتوفير فَيْئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا. وأمّا حقّي عليكم: فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمَغيب، والإجابةُ حين أدعوكم، والطاعةُ حين آمُرُكم".