حق الخصم المدعي عليك
وَأمّا حَقُّ الخَصْمِ المُدَّعِي عَلَيْكَ، فَإنْ كَانَ مَا يَدَّعِي عَلَيكَ حَقّاً لَمْ تنفَسِخ فِي حُجَّتِهِ وَلَمْ تَعمَلْ فِي إبطَالِ دَعْوَتِهِ وَكُنْتَ خَصْمَ نفْسِكَ لَهُ والحَاكِمَ عَلَيْهَا والشَّـــاهِدَ لَهُ بحَقِّهِ دُونَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ، فَإنَّ ذلِكَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَإنْ كَانَ مَـــا يَدَّعِيهِ بَاطِلاً رَفَقْتَ بهِ وَرَوَّعْتَهُ وناشَدتهُ بدِينِه وَكَسَرْتَ حِدَّتهُ عَنكَ بذِكْرِ اللهِ وَأَلْقَيْتَ حَشْوَ الْكَلامِ وَلَغَطَهُ الَّذِي لا يَرُدُّ عَنْكَ عَاديَةَ عَدُوِّكَ بَلْ تبُوءُ بإثمِهِ وَبهِ يَشْحَذ عَلَيْكَ سَيفَ عَدَاوَتِهِ لأَنَّ لَفْظَةَ السُّوءِ تَبعَثُ الشَّرَّ، وَالخَيْر مُقْمِعَةٌ لِلشَّرِّ. وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ.ُ
الدنيا بطبيعتها دار تزاحم وتضاد؛ تتشابك فيها المصالح فيختلف أهلها، وتتضارب فيها الآراء والمعتقدات فيدعي كل واحد أن الحق بجانبه، فتنشأ الخصومات والنزاعات.
والإنسان بطبيعته كائن جدلي يدافع عن نفسه ورأيه ومعتقده وموقفه بكل ما أوتي من قوة، كما قال تعالى في سورة الكهف:﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (54)﴾.
إنه ينسى أو يتناسى أبده البديهيات ليختلق إشكالا هنا وإشكالا هناك في خصومة وجدال شديدين. قال تعالى في سورة يس:﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)﴾.
وهكذا تستمر معه هذه الطبيعة حتى ما بعد الموت:﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)﴾ سورة الزمر.
من هنا كانت الحاجة ماسة لإدارة الخصومات والقضاء بينها. وهو ما نشهده في عالمنا اليوم من إنشاء محاكم مختلفة بدرجات واختصاصات متنوعة للفصل في النزاعات على مستوى الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات؛ يضاف لذلك الهيئات الأهلية التي تعمل أيضا للبت في بعض الحالات بشكل ودي قائم على التصالح والتراضي.
والإمام في هذا المقطع من رسالة الحقوق يضع الخطوط العريضة أمامنا لكيفية التعامل مع الخصم الذي يقوم برفع دعوى ضدنا. وترتكز هذه الخطوط على حق الله تعالى الذي هو أصل الحقوق، والذي يعطي للخصم أيا كان حقوقا يجب مراعاتها، سواء كان موضوع النزاع والخصام قضية مادية أو فكرية أو عقائدية أو غيرها.
فالدعوى كما يفصلها الإمام عليه السلام لا تخلو في مجملها أو في تفاصيلها من أن تكون إما حقا وإما باطلا؛ فإن كانت حقا وجب الإذعان لها وعدم التهرب من استحقاقاتها. إذ المطلوب من الإنسان المؤمن أن يكون باحثا عن الحقيقة، وهي ضالته المنشودة، لا يراوغ ولا يخادع حين تستبين له، بل يتحول إلى صف الخصم ضد نفسه، يحكم عليها، ويدلي بشهادته في حقها قبل شهادة الآخرين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)﴾ سورة النساء.
أما إذا الدعوى باطلة فتتمثل حقوقه في التالي:
- التعامل معه برفق، لعله يعود إلى رشده.
- استخدام المدخل العاطفي الذي يذكره بالله ويخوفه من عقابه ويخاطبه بالمنطلقات الدينية التي يؤمن بها، ويستحلفه ويطلب منه الالتزام بموجباتها.
- الابتعاد عن فضول الكلام وفحشه ولغطه، لأنه يصب الزيت على النار ولا يساهم في رد الدعوى.
- التمسك بالكلمة الطيبة دائما وأبدا؛ فهي التي تقمع الشر وترد الباطل وتظهر الحق.
هكذا يريدنا الإمام عليه السلام أن نكون منصفين في كل الأحوال، متمسكين بالحق، نرد الحجة بالحجة والدليل بالدليل برباطة جأش، لا يستفزنا الآخر، ولا يقودنا لمعركة وهمية أو جانبية.
هكذا يريدنا الإمام مجتمعا يطلب العدل بالعدل، لا بالجور والعدوان. فالأمر كما قال الإمام علي : ما ظفر من ظفر الإثم به، والغالب بالشر مغلوب.
ليست المسألة إذن أن ننتصر في خصوماتنا مع الآخرين، بل الأهم أن ننتصر للحق بالحق. فقد يكسب الإنسان قضية في محكمة من المحاكم لأن حجته أقوى ولسانه أبين، ولكنه في الواقع يخسر نفسه ودينه وآخرته إذا كانت الدعوى باطلة.