حق الخصم المدعَى عليه
وَأمّا حَقُّ الخَصْمِ الْمُدَّعَى عَلَيهِ فَإنْ كَانَ مَا تدَّعِيهِ حَقًّا أَجْمَلْتَ فِي مُقَاوَلَتِهِ بمَخرَجِ الدَّعْوَى، فَإنّ لِلدَّعْوَى غِلْظَةً فِي سَمْعِ الْمُدَّعَى عَلَيهِ. وَقَصَدْتَ قَصْدَ حُجَّتِكَ بالرِّفْقِ وَأَمْهَلِ الْمُهْلَةِ وَأبْينِ الْبَيَانِ وَألطَفِ اللُّطْفِ ولَمْ تَتشَاغَلْ عَنْ حُجَّتِكَ بمُنازَعَتِهِ بالقِيلِ وَالقَالِ فَتَذهَبْ عَنْكَ حُجَّتُكَ ولا يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ دَرْكٌ. ولا قُوَّةَ إلا بالله.
تناول الحديث السابق حق الخصم المدعي عليك، وهنا يتلوه مباشرة الحديث عن حق الخصم المدعَى عليه، أي حق الآخر حين يكون في دائرة الاتهام أو المساءلة.
وقد بين الإمام في هذا المقطع من رسالته الشريفة ما ينبغي مراعاته من حقوق في حالة ما إذا كانت الدعوى حقا لا ريب فيها. ولم يذكر الإمام أي شيء عن الدعوى الباطلة لأنها ينبغي أن تسقط من الأساس، وأن يتنزه الإنسان عن إقامتها ضد أي أحد، فما بُني على باطل فهو باطل، والغالب بالشر مغلوب.
قد يكسب الإنسان دعوى أو قضية معينة مستخدما حججا ملفقة، أو وثائق مزورة، أو طرقا ملتفة ملتوية، كما يحدث كثيرا في عالمنا اليوم، خصوصا ما يمارسه بعض المحامين الذين يهمهم في المقام الأول الانتصار لشخص موكلهم بغض النظر عن صحة الدعوى وتماسك أدلتها.
نقول: قد يحدث هذا، فيشعر الإنسان بنشوة الانتصار، ويأخذ ما ليس له بحق، متغافلا عن علم الله تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وعن كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعن يوم عسير:﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30)﴾ سورة آل عمران.
لذا فإن الحديث منصب على إقامة الدعوى التي تستند على أدلة حقيقية وتهدف إلى إحقاق الحق ودحض الباطل وبسط العدل. ومع كل ذلك فإنه ينبغي على صاحبها أن يلتزم بضوابط محددة لا يحيد عنها حفظا لكرامة الخصم، فالمسألة ليست متعلقة بكسب القضية فقط، بل بكيفية كسبها أيضا.
يركز الإمام عليه السلام على ثلاثة حقوق:
الأول: هو الإجمال في الجدال والمناظرة والخصومة: وهو ما اختصره الإمام بقوله (أجملت في مقاولته). والإجمال يعني الاعتدال وعدم التطرف في الأخذ والرد معه.
ويعلل الإمام ذلك بالآثار النفسية للدعوى في نفس المدعى عليه؛ حيث يقول : (فَإنّ لِلدَّعْوَى غِلْظَةً فِي سَمْعِ الْمُدَّعَى عَلَيهِ)، فالمطلوب من المدعي مراعاة هذا الأمر حتى لا يتسبب في أذى المدعى عليه.
الثاني: التأكيد على ضرورة مراعاة الأسلوب لاسترداد الحق؛ فلا يكفي أن تكون محقا في دعواك كي تكسب قضيتك، بل لا بد من الالتزام بأفضل السبل في الوصول لذلك. ويتمثل ها السبيل في الرفق وعدم استعمال العنف اللفظي أو الجسدي، وفي التأني والصبر وعدم استعجال النتائج، وفي البيان القوي الحجة ذي الأدلة المتعاضدة والبراهين المحكمة، المتزين باللطف النافذ إلى دقائق الأمور.
الثالث: التركيز على أصل القضية وموضوع الدعوى، وعدم الانجرار وراء الأمور الهامشية والمواضيع الجانبية التي تصرف الإنسان عن دعواه، وتشغله فيما لا يعود عليه وعلى قضيته إلا بالخسران.