حق من ساءك
وَأمّا حَقُّ مَنْ سَاءَكَ القَضَاءُ عَلَى يَدَيهِ بقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَإنْ كَانَ تَعَمَّدَهَا كَانَ العَفْوُ أَوْلَى بكَ لِمَا فِيهِ لَهُ مِن القَمْعِ وَحُسْنِ الأَدَب مَعَ كَثِيرِ أَمْثالِهِ مِنَ الخَلْقِ، فإنَّ اللهَ يَقُولُ ﴿ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ. ﴾
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ﴾ هَذا فِي الْعَمْدِ فَإنْ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا لَمْ تَظْلِمْهُ بتَعَمُّدِ الانتِصَارِ مِنْهُ فَتَكُونَ قَدْ كَافَأتَهُ فِي تَعَمُّــدٍ عَلَى خَطَأٍ.
وَرَفِقْتَ بهِ وَرَدَدتَهُ بأَلْطَفِ مَا تقْدِرُ عَلَيْهِ. ولا قُوَّةَ إلا باللهِ.
ما أروع هذا المقطع الذي يتحدث عن حقوق من يسيء إليك ليضع توجيهات أخلاقية وضوابط تقنينية تمنع تجاوز الحدود وردات الفعل المنفلتة. فالإسلام يعمل على أن تكون شخصية المسلم والمسلمة محكومة بإطار مرجعي في كل حركة أو سكنة، وليست متروكة للمزاج المتقلب؛ فحتى أولئك الذين يسيئون لنا لهم حقوق ينبغي مراعاتها.
والإمام السجاد يقسم الذين تقع منهم الإساءة إلينا على قسمين:
الأول: المتعمد القاصد للإساءة، فهو وإن كان رد الإساءة عليه بمثلها مشروعا إلا أن العفو في مقامه أولى، لما له من آثار إيجابية عظيمة على من يتعرض للإساءة وعلى المسيء؛ على الأول بتربية نفسه على كظم الغيظ وضبط الأعصاب والرقي إلى مرتبة (عزم الأمور)، وعلى الثاني بإعادة توجيه سلوكه كما قال تعالى:
﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ سورة فصلت.
الثاني: غير المتعمد، وهذا حقه أن لا نرد إساءته غير المتعمدة بإساءة متعمدة فنكون قد ظلمناه، بل نقابلها بكل رفق ولطف.
وقد تكاثرت النصوص الشريفة في فضل العفو، منها هذا الحديث عن رسول الله : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُنَادِي مُنَادٍ يَسْمَعُ آخِرُهُمْ كَمَا يَسْمَعُ أَوَّلُهُمْ فَيَقُولُ أَيْنَ أَهْلُ الْفَضْلِ فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ فَتَسْتَقْبِلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ فَيَقُولُونَ مَا فَضْلُكُمْ هَذَا الَّذِي نُودِيتُمْ بِهِ فَيَقُولُونَ كُنَّا يُجْهَلُ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا فَنَحْمِلُ وَ يُسَاءُ إِلَيْنَا فَنَعْفُو فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى صَدَقَ عِبَادِي خَلُّوا سَبِيلَهُمْ لِيَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
أخيرا نذكر القصة التالية التي نقلها المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي عن والده رحمهما الله. يقول:
نقل والدي رحمه الله: أن إنساناً جاء إلى الميرزا محمد تقي الشيرازي (قدس سره) يريد منه شيئاً من المال وحيث لم يكن المال متوفراً آنذاك للميرزا، اعتذر منه فأخذ ذلك الرجل يسب الميرزا في وجهه والميرزا ساكت لا يتكلم فأراد جماعة من الجالسين تأديب الرجل لكن الميرزا أشار إليهم بعدم التعرض له، وقال أن الفقر أو جب الحدة فيه فاتركوه وشأنه فقام الرجل وذهب.
وبعد أيام جيء إلى الميرزا بأموال لأجل قضاء صلوات وصيام عن الأموات ففرق الميرزا الأموال في مواردها وأبقى حصة منها لذلك الرجل وأوصى بها من يوصلها إليه حتى يقضي عن الميت صلاته وصومه فاعترض على الميرزا جماعة من الحاضرين، وقالوا له:
شيخنا هل السب من الكبائر الموبقة؟
قال: نعم.
قالوا: وهل أنتم تشترطون العدالة فيمن يقضي صلوات الأموات وعبادتهم؟
قال: نعم.
قالوا: فإن الرجل سبّكم قبل أيام فهلا أسقطه سبّه عن العدالة؟
فتوجه الميرزا إليهم وقال: نعم إني أشترط فيمن يقضي صلوات الأموات وصيامهم العدالة، والسبّ أيضاً من الكبائر المسقطة للعدالة، لكن سب مثله لمثلي لا يوجب سقوط عدالته - وأراد بذلك أنه قد سبّه اضطراراً من جهة فقره لا أنه سبّه عن عمد - والميرزا زعيم المسلمين فينبغي له أن يعفو عن المذنبين.