حق أهل الذمة

 

 

 

وَأمّا حَقُّ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَالحُكْمُ فِيهِمْ أَنْ تَقبَلَ مِنْهُمْ مَا قَبِلَ اللهُ، وَتَفِي بمَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ مِنْ ذِمَّتِهِ وَعَهْدِهِ وَتكِلُهُمْ إلَيهِ فِيمَا طَلبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأُجْبِرُوا عَلَيْهِ، وَتحْكُمَ فِيهِمْ بمَا حَكَمَ اللهُ بهِ عَلَى نفْسِكَ فِيمَا جَرَى بَيْنَكَ وَبيْنَهمْ مِنْ مُعَامَلَةٍ، وَلْيَكُنْ بَينَكَ وَبيْنَ ظُلْمِهِمْ مِنْ رِعَايَةِ ذِمَّةِ اللَّهِ وَالْوَفَاءِ بعَهْدِهِ وَعَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ - حَائِلٌ فَإنَّهُ بَلَغَنَا أنَّهُ قَالَ "مَنْ ظَلَمَ مُعَاهَدًا كُنْتُ خَصْمَهُ" فَاتَّقِ اللَّهَ. ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ.

فَهذِهِ خَمْسُونَ حَقًّا مُحِيطًا بكَ لا تَخرُجْ مِنْهَا فِي حَالٍ مِن الأَحْوَالِ، يَجِبُ عَلَيْكَ رِعَايَتُهَا وَالْعَمَلُ فِي تَأْدِيَتِهَا وَالاسْتِعَانَةُ باللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ. وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ وَالْحَمْدُ للهِ رَب العَالَمِينَ.

بهذا النص نكون قد وصلنا إلى الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة، والحديث هنا عن حق الأقليات الدينية غير الإسلامية الذين يعيشون في المجتمع الإسلامي بموجب عقد بينهم وبينه، ويطلق عليهم اصطلاحا أهل الذمة، أي أهل العقد أو المعاهَدون. هذا المصطلح لا يتضمن – كما قد يصوره البعض – انتقاصا لطائفة من المجتمع، بل على العكس تماما، إذ يشير إلى عقد يجب الوفاء بمتطلباته.

وعندما نتأمل هذا النص سنصاب بالدهشة لأن الحقوق المذكورة فيه يتطلع الفرد المسلم الذي ينتمي اليوم لأقلية مذهبية إلى الحصول على مثلها في مجتمعه، وذلك بسبب التمييز الطائفي المقيت الذي يُمارس ضده تحت ذرائع واهية، وباسم الدين أيضا.

يعدد الإمام عليه السلام حقوق أهل الذمة في قبول العقد الاجتماعي معهم مع الوفاء التام بالتزاماته، وإيكال أمرهم إلى الله تعالى فيما يجب عليهم الوفاء به، والقضاء العادل فيهم طبقا لحكم الله المذكور في العقد، وعدم ظلمهم بأي شكل من الأشكال، لأن ظلم الذمي يعني مخاصمة النبي ، وكفى بذلك حائلا عن الوقوع في الظلم.

من هنا عبر الإمام علي عن عميق ألمه وحزنه لما حدث من جيش الشام للنساء المسلمات والمعاهدات على قدم سواء. يقول :
ولقَد بلَغنِي أنّ العُصْبَة من أهل الشَّام كانوا يَدخلون على المرأة المُسلِمَةِ والأُخْرى‏ المعاهَدَةِ، فيهتِكون سِتْرَها، ويأخذون القِناعَ من رأسها، والخُرْصَ من أُذُنِها، والأوْضاحَ من يديها، ورِجْلَيها وعَضُدَيْها، والخَلخالَ والمِئْزَرَ من سُوقها، فما تَمْتَنِع إلَّابالاسترجاع والنِّداء: يا للمسلمين، فلا يُغيثها مُغِيثٌ، ولا يَنصرُها ناصِرٌ؛ فلو أنَّ مؤمناً مات من دون هذا أسفاً ما كان عِندي ملُوْماً، بل كان عندي بارَّاً مُحْسِناً.

ويروى في سيرته أيضا أنه مَرَّ به شَيْخٌ مَكْفُوفٌ كَبِيرٌ يَسْأَلُه، فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَانِيٌّ. فَقَالَ  مستنكرا ومبادرا بتصحيح الوضع طالبا إعطاءه الضمان الاجتماعي: اسْتَعْمَلْتُمُوهُ‏ حَتَّى‏ إِذَا كَبِرَ وَ عَجَزَ مَنَعْتُمُوهُ، أَنْفِقُوا عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.

كما أنه عليه السلام قام - وهو خليفة المسلمين -  بمساواة نفسه أمام القانون بخصمه اليهودي عند شريح القاضي في قضية الدرع التي ادعى اليهودي أنها له، بينما كانت في الواقع لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد حكم فيها القاضي لصالح اليهودي، فلما رأى ذلك قال: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ إِلَى الْحَاكِمِ وَ الْحَاكِمُ حَكَمَ عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَالَ: الدِّرْعُ‏ دِرْعُكَ‏ سَقَطَتْ يَوْمَ صِفِّينَ مِنْ جَمَلٍ أَوْرَقَ فَأَخَذْتُهَا.

هكذا يذكر التاريخ بفخر معاملة المسلمين للأقليات الدينية الذين عاشوا مواطنين بين ظهرانيهم في مجتمع استطاع أن ينتج في الماضي نموذجا حضاريا للتعايش السلمي بين مختلف أتباع الأديان، بينما يعجز في الوقت الراهن عن إنتاج صيغة  للتعايش بين أفراد الدين الواحد.

شاعر وأديب