التربية الحقوقية عند الإمام علي (ع)
هذا الموضوع يحتاج إلى بحث مستقل، بل إلى كتاب يستقصيه حق الاستقصاء، نظرا لسعته وكثرة مفرداته. ولكن من باب (ما لا يُدرَك كله، لا يُترك كله) نتطرق في هذا المقال لشيء يسير منه لعله يوضح بعض المراد.
الإمام علي كان الحق محور حياته في كل حركة منه وسكنة، ولذا قام بدور رائد على المستويين النظري والعملي في نشر ثقافة الحقوق وتربية الآخرين رجالا ونساء على أداء الحقوق والمطالبة بها، وهو ما نراه في سلوك أتباعه كأبي ذر الغفاري وسودة بنت عمارة الهمدانية كمثالين لناشطين حقوقيين من الجنسين تخرجا من مدرسته.
التوعية بالحقوق المتبادلة بين السلطة السياسية والشعب:
يتجلى ذلك في بيان موجه منه كحاكم على رأس السلطة إلى كافة أفراد الشعب مبينا لهم حقوقهم عليه وواجباتهم تجاهه. يقول:
"أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً وَلَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وَتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وَتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وَتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا ، وَأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ وَالنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ وَالْمَغِيبِ وَالْإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ وَالطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ".
حق الشعب على السلطة السياسية يتمثل أولا كما يرى الإمام في العمل الصادق المخلص القائم على الشفافية والعدل، البعيد عن الغش والتدليس، وهو ما نستفيده من مفردة (النصيحة)؛ وثانيا في (توفير الفيء) الذي يعني المحافظة على الثروات العامة وتنميتها وسد حاجات المحتاجين؛ وثالثا في توفير البيئة التعليمية المناسبة، ورابعا في إعمال السلطة للتوجيه السلوكي والضبط الاجتماعي.
أما حق السلطة على الشعب فهي أربعة أيضا على رأسها الوفاء بالعقد الاجتماعي المبرم بينها وبينهم.
وقد أكد الإمام على هذه الحقوق المتبادلة حتى في أحلك الظروف، فها هو يخطب في صفين قائلا:
أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ وَ الْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ.
توعية منسوبي الجهاز الإداري الحكومي بالحقوق المتبادلة بينهم وبين الشعب.
ولعل عهد الإمام علي إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر أشمل وثيقة تاريخية تضع الخطوط العريضة للإدارة العامة الناجحة. وهذا العهد يحتاج وحده لوقفات تأملية كثيرة، ولكننا سنقتطف منه زهرة واحدة يهمس عطرها الفواح بالقول:
"وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ".
ومن ذلك أيضا ما كتبه عليه السلام من وصايا لعماله على الخراج، أي جباة الضرائب بالمصطلح الحديث، وكرسالته إلى الأسود بن قطبة أحد المسؤولين العسكرييين، وكتابه إلى بعض الموظفين العامين من ذوي المسؤوليات الذي يبين لهم فيه حق الجيش حين يمر بأراضيهم، وحقهم عليه، وهو بعنوان: إلى العمال الذين يطأ الجيش عملهم.
يقول مخاطبا مسؤولي الضرائب مبينا حرمة مال المسلم وغيره: وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَ لَا مُعَاهَدٍ إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ.
توعية المعارضة بحقوقها المشروعة: تمثل ذلك في خطابه عليه السلام للخوارج حين قال لهم:
"لَكُمْ عِنْدَنَا ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تُصَلُّوا فِيهَا وَ لَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا كَانَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا وَ لَا نَبْدَؤُكُمْ بِحَرْبٍ حَتَّى تَبْدَءُونَا بِهِ".
توعية الشعب بضرورة المشاركة السياسية وممارسة حق الرقابة والنقد وحرية التعبير:
"فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى".
النهي عن النفاق السياسي الذي يمارسه النفعيون المتسلقون في كل زمان ومكان:
" وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ [الْبَقِيَّةِ] فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَ لَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ".
الممارسة العملية القائمة على الحقوق: ومن ذلك ما كان يفعله مع الشكاوى التي كانت تصله عن بعض المسؤولين في الوظائف العامة، حيث يصدر أوامره بعزل من يثبت في حقه ممارسة أي نوع من أنواع الفساد.
يقول مخاطبا عامله على أذربيجان: وَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَ لَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ وَ لَعَلِّي أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَاتِكَ لَكَ وَ السَّلَامُ.
الحديث كما قلنا طويل، اكتفينا هنا ببعض الإشارات، وربما نوفق لاحقا لبسط الكلام فيه.