الشيخ النائيني مدافعا عن الحرية والمساواة (5)

 

 

 

 

مسألة المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، ومسألة مساواتهم مع الحاكم من المسائل التي تطرقت لها بعمق رسالة الشيخ النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة). وكفقيه فقد كان لا بد له أن يرد على الشبهات والمغالطات في هذه المسألة الشائكة من منظور فقهي، وهذا ما فعله بإتقان.

قرر الشيخ النائيني أصالة المساواة بين الرعية والراعي في الحقوق وفي الأحكام وفي الجزاء والقصاص مستفيدا ذلك من سيرة النبي ، وشدد على دور العلماء في بث الوعي بأهمية هذا الأمر، حيث قال: " على علماء الإسلام بذل مهجهم في المجاهدة من أجل حفظ بيضة الإسلام العزيز. وأول خطوة في هذا الطريق تنبيه الغيورين من بني الإسلام إلى ضرورة تحرير رقابهم من رِقية الجائرين، وتعليمهم بأن الله قد منحهم حقا ثابتا في المساواة مع كل أحد في البلاد، والمشاركة الكاملة في أمور البلاد مع أهل السلطة".

وتمشيا مع أصل المساواة - الذي وصفه بأنه من أشرف القوانين المباركة، التي تنطوي عليها السياسات الإسلامية، وهو مبنى وأساس العدالة وروح القانون - رأى بأن عضوية مجلس النواب لا تقتصر على المسلمين، "بل لا بد أن تتمثل الأقليات غير المسلمة في المجلس، ولا بد أن تشارك في الانتخابات، لأن أتباعها شركاء في الوطن، وشركاء في أموال الدولة وغيرها، ولتوقف عمومية الشورى والانتخاب على دخولهم".

وإذ كان قد وضع شرائط أو مواصفات للنائب تتمثل في العلم بالسياسة، والنزاهة، والحرص على الدين والوطن، فإنه ذكر بأن اتصاف نواب الأقليات بالعلم والنزاهة والإخلاص للوطن والناس كاف لصحة عضويتهم.

ونظرا لما تعرض له هذا الأصل من مغالطات حاولت تشويهه وحرفه عن موضعه، كالادعاء بأن المساواة بين المواطنين ستؤدي إلى رفع التمايز بين أصناف المكلفين المختلفين (كالعاقل والمجنون، والمرأة والرجل، والمسلم والكافر) في أداء الأحكام الشرعية في التناكح والتوارث وغيرها من الأحكام.

نظرا لذلك فقد انبرى الشيخ النائيني لبيان وجهة نظره ومقصوده، وبطلان إزالة التمايز والفروقات بل استحالته، لأن "تطبيق القانون دون النظر إلى موضوعه خلافُ ما يفعله العقلاء، وهذا أمر لا يختص بالمسلمين، بل عام لكافة الأمم والأديان، ...، بل حتى لدى منكري الشرائع والأديان، ...، بل هي لازمة من لوازم النشأة الإنسانية، ...، فالكل يعلم ويعتقد أن التكاليف تختلف باختلاف حال المكلف بين القادر والعاجز، وبين المختار والمضطر، والموسر والمعسر، والعاقل والمجنون، وأمثالها".

لذا فالمقصود بالمساواة عنده هو المساواة أمام القانون بحيث لا يكون أحد فوق المساءلة والمحاسبة، كما يعني المساواة في " الحالات العامة المشتركة بين جميع الرعية، في مختلف قضاياهم، مثل الاطمئنان على النفس والمال والعرض والمسكن، ومنع التعرض بدون سبب، وعدم التجسس على الخفايا، وعدم الحبس والنفي من دون موجب، وعدم الممانعة من الاجتماعات المشروعة، ونحو ذلك مما هو مشترك بين عموم الناس، وليس متعلقا بطائفة خاصة".

أخيرا بقي أن نقول بأن رسالة "تنبيه الأمة وتنزيه الملة" هي مدونة سياسية فقهية متميزة لم تنل حظها من النشر والبحث والشهرة إذا قارناها مثلا بكتاب (طبائع الاستبداد) للشيخ عبد الرحمن الكواكبي. وأجدها فرصة مناسبة هنا أن أحيل القراء إلى كتاب (ضد الاستبداد) للدكتور توفيق السيف الذي أوسعها بحثا ودراسة.

شاعر وأديب