التنباكية

 

 

 


 ما حدث في إيران عام 1891 م من مقاومة سلمية مدنية ناجحة عُرفت باسم ثورة التنباك، لو وقع في مكان ما في الغرب لأصبح أيقونة في النضال من أجل الحرية والاستقلال، ولقاموا بتوليد كلمات أو مصطلحات جديدة، مثل (التنباكيزم)، والفعل (تنبك) وتصريفاته، ولأصبح له شعار فريد ذو سمعة عالمية، ولربما كنا سمعنا بمقهى مشهور يقدم التنباك مع القهوة، ويحمل اسم (تنباكشينو) على وزن (كباتشينو).

ولكن لأن الحدث وقع في إيران فإنه ظل محليا أو شبه محلي لا يعرفه إلا القليل. باختصار الغرب يجيد صناعة النجومية فيجعل العالم وبالذات فئة الشباب منه مشغولا بنجومه يتابع أدق تفاصيل حياتها، ويتطلع إلى أن يكون مثلها. أما نحن وللأسف فنقوم بقصد أو بدون قصد بطمس نجومنا اللامعة والتي لا تحتاج إلى صناعة، بل إلى إعلام يكشف خزائن أسرارها. وحديثي عن التنباك والتنباكية يأتي في هذا السياق.

التنباك هو التبغ المعروف الذي تحول إلى رمز للمقاومة المدنية في إيران، تماما كما تحول الملح بعد ذلك إلى رمز للمقاومة اللاعنفية في الهند على يد غاندي.

ناصر الدين شاه، هو الشاه الرابع من ملوك الدولة القاجارية التي حكمت إيران من (1794-1925). كانت فترة حكمه التي قاربت الخمسين سنة (1848-1896) من أسوأ الفترات التي مرت بها البلاد، حيث كان الشاه منغمسا في أسفاره وملذاته، منصرفا عن الإصلاح والتطوير، تاركا البلاد نهزة للطامعين البريطانيين والروس الذين كانوا يتنافسون على تقاسم البلاد وثرواتها من خلال الامتيازات الاحتكارية التي يحصلون عليها من الشاه مقابل تمويلهم له. كان من بين أسوأ تلك الامتيازات هو امتياز التنباك الذي مُنح لشركة إنجليزية، أصبح من حقها بموجبه شراء كل محصول التبغ من المزارعين، وبيعه من ثم إلى التجار أو تصديره إلى الخارج. وكان يمثل في الواقع تمهيدا للاستعمار تحت واجهة التنباك، حيث استقدمت الشركة عشرات الآلاف من الموظفين الإنجليز، واتخذت في كل مدينة قاعدة عسكرية خارج نفوذ السلطة في إيران.

لم يتحمل الشعب الإيراني هذا الوضع المهين، فقرروا المقاومة خصوصا في مدن التبغ. في شيراز مثلا هدد الزعيم الديني علي أكبر فال أسيري بإعلان الجهاد، وتم تشكيل هيئات للمقاومة في مختلف أقاليم إيران، وأبدى الشعب استعداده لبذل التضحيات اللازمة لإخراج الأجنبي والحفاظ على استقلال البلاد.

من الصور الرائعة التي تذكر في هذا الصدد، ما قام به أحد تجار التبغ في أصفهان الذي طلبت منه الشركة بيع مخزونه البالغ 12 ألف كيس بالسعر الذي يحدده رجالها، فاستمهلهم للتفكير في الأمر حتى اليوم التالي، وفي الليل قام بإحراق التبغ كله، وفي الصباح أبلغ التاجر رجال الشركة أنه قد باع تبغه بأعلى سعر، وهو كرامته وعزة دينه.

 تواصلت الاحتجاجات في كافة أنحاء البلاد، ثم بلغت الأمور ذروتها بتدخل المرجع الديني الكبير الميرزا محمد حسن الشيرازي الذي عرف بالعلم والتقوى والرؤية الثاقبة والنظرة السياسية العميقة، حيث أصدر في العام 1891 فتواه الشهيرة التي تقل عن 20 كلمة، والتي أصبحت تاريخا فاصلا يختلف ما قبله عما بعده. كان نص الفتوى هو: اليوم استعمال التبغ والتنباك بأي نحو كان، في حكم محاربة إمام العصر صلوات الله وسلامه عليه.

استجاب الشعب الإيراني، فقرر مقاطعة التعامل مع التبغ بيعا وشراء واستعمالا، ونجحت المقاومة أخيرا في إلغاء امتياز التبغ.

هذا ما حدث باختصار، وفيه من الدروس الكثير، ولكن أهمها أن نفهم المعادلة التي صنعت النجاح، وهي ما أسميها بـ(التنباكية). التنباكية إذا أردنا وضعها في معادلة رياضية ستكون هكذا:
التنباكية = شعب واع مستعد للتضحية x قيادة حكيمة قادرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب.
واخترت علامة الضرب بدل الجمع لأنها تدل على التفاعل وليس مجرد ضم شيء إلى آخر، فلولا التفاعل لكانت الفتوى مجرد حبر على ورق.
التنباكية هي الحالة التي تحقق الاستقلال والتقدم والازدهار، ولذلك فهي تستحق أن تصبح كما قلت في البداية أيقونة للنضال السلمي من أجل الحرية والاستقلال.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 13 / 6 / 2012م - 11:30 ص
الأستاذ بدر / وفقه الله
هل حالة المجتمع المدني الذي ننشده يتوافق مع نظرية الفتوى المقحمة بالسياسة ؟
و هل الوعي يكون بالخضوع للفتوى عموما ، أم لملائمتها للواقع المعاش ؟
لك الموفقية في كل حال .
شاعر وأديب