للعقلاء فقط
واحد من أصدق المعايير لمعرفة مدى احترام أي أمة لعقلها هو موقع النخب الصالحة فيها. ونعني بالنخب الصالحة أولئك النفر المشهور صلاحهم وصدقهم وإخلاصهم والذين يمتلكون العلم والمعرفة والحكمة ويسعون لرقي مجتمعهم وسعادته.
فإذا رأينا النخب الصالحة في مجتمع ما تتبوأ مراكز القيادة، وتتسنم المناصب الحساسة، علمنا أن هذا المجتمع يسير في الطريق الصحيح.
أما إذا علمنا أن تلك النخب مبعدة عن مواقعها اللائقة بها، وأنها إما مطاردة أو منفية أو في غياهب السجون، فلا يحتاج الأمر إلى ذكاء خارق حتى نكتشف أي قعر أو غيابة جب اختار هذا المجتمع أن يعيش فيه.
لذا فإننا عندما نقرأ التاريخ يمكننا استخدام هذا المعيار أيضا في تقييم أي حقبة منه. فلا يهم كل ما يحاول البعض تدبيجه عن إنجازات فوقية حدثت في عهد هذا الخليفة أو ذاك؛ بل المهم البحث عن الإنجازات المتعلقة بكرامة الإنسان وحريته. وهذا ما يركز عليه العالم اليوم.
عندما نقرأ سيرة الإمام موسى بن جعفر الكاظم الذي عاش في الفترة (128-183 هـ) والذي كان أعلم أهل زمانه وأتقاهم، فنرى أنه قضى سنوات طويلة من حياته الشريفة معتقلا في سجون العباسيين، ندرك مستوى الانحراف الذي وصلت إليه السلطة التي هي نتاج الواقع الاجتماعي الرديء.
لن أتحدث هنا عن سيرة الإمام الكاظم عليه السلام لإثبات منزلته وعلو شأنه، بل سأكتفي بالحديث المقتضب عن نتاج شريف من عنده يصلح أن يكون نموذجا للأدب ذي المستوى العالمي الراقي شكلا ومضمونا والذي ينبغي أن يترجم إلى اللغات الحية.
حديثي هو عن وصية الإمام عليه السلام لتلميذه النجيب هشام بن الحكم والتي تركز على العقل وقيمته وأهميته وما يؤثر فيه سلبا أو إيجابا وعن أمراضه وعلاجه. فالرسالة مكرسة لموضوع العقل الذي تم تغييبه في الأمة، حيث جاءت هذه المفردة بتصريفاتها المختلفة في أكثر من ستين موردا فيها.
في البداية يتحدث الإمام عن العقل ومكانته في القرآن الكريم مستشهدا بالآيات الكريمة. نختار من كلامه ما يلي:
إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بَشَّرَ أَهْلَ الْعَقْلِ وَ الْفَهْمِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ ...
يَا هِشَامُ ثُمَّ ذَكَرَ أُولِي الْأَلْبَابِ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ وَ حَلَّاهُمْ بِأَحْسَنِ الْحِلْيَةِ فَقَالَ ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾. يَا هِشَامُ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ يَعْنِي الْعَقْلَ، وقَالَ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ﴾ قَالَ الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ.
ثم يخلص إلى أن قمة العقل تكون في التواضع للحق. يقول: يا هِشَامُ إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ.
كما يضع أمام الإنسان قاعدة ذهبية في تقييم معقولاته وضرورة إحراز الاستقلال العقلي، حيث لا يهم كثيرا رأي الناس فيها ما دام متأكدا من معقوليتها:
يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَقَالَ النَّاسُ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ. وَلَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَقَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ.
ويتحدث في موضع آخر من الوصية عن علامات العاقل وعلاقته بالدنيا ومخالفته للأهواء.
يَا هِشَامُ الصَّبْرُ عَلَى الْوَحْدَةِ عَلَامَةُ قُوَّةِ الْعَقْلِ فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اعْتَزَلَ أَهْلَ الدُّنْيَا وَالرَّاغِبِينَ فِيهَا وَرَغِبَ فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِ وَكَانَ اللَّهُ آنِسَهُ فِي الْوَحْشَةِ وَصَاحِبَهُ فِي الْوَحْدَةِ وَغِنَاهُ فِي الْعَيْلَةِ (أي الفقر) وَمُعِزَّهُ فِي غَيْرِ عَشِيرَةٍ.
يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَاقِلَ رَضِيَ بِالدُّونِ (أي القليل) مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ، وَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا فَلِذَلِكَ رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ.
في الواقع تحتاج كل فقرة في الوصية التي تزيد عن 4000 كلمة إلى حديث مستقل، لذا سأختم بهذه العبارة الوضيئة:
يَا هِشَامُ إِنَّ ضَوْءَ الْجَسَدِ فِي عَيْنِهِ فَإِنْ كَانَ الْبَصَرُ مُضِيئاً اسْتَضَاءَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِنَّ ضَوْءَ الرُّوحِ الْعَقْلُ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ عَاقِلًا كَانَ عَالِماً بِرَبِّهِ وَإِذَا كَانَ عَالِماً بِرَبِّهِ أَبْصَرَ دِينَهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ لَمْ يَقُمْ لَهُ دِينٌ.