سبع باقات من حدائق العقل
عندما يتحدث الخبير فإن الإنصات في حضرته هو المحمود والحديثَ عبث، إلا أن يكون استفهاما تفاعليا يطلب المزيد أو يستوضح ما احتاج إلى توضيح. فكيف إذا كان الخبير من سادات البيان وملوك الكلام، والموضوع عن العقل، ذلك المخلوق الحجة الذي تحدث النبي عن خلق الله له فقال: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَ الْعَقْلَ مِنْ نُورٍ مَخْزُونٍ مَكْنُونٍ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ الَّتِي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَ لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ "
لذا سأختار مقتطفات أو باقات سبع من الحدائق الغُلب في وصية الإمام الكاظم عليه السلام لتلميذه هشام بن الحكم الذي كان مختصا في العقليات، وسأضع لكل باقة عنوانا.
في معرض تفسيره القرآني الموضوعي في الوصية عن العقل، يقول :"يَا هِشَامُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْعَقْلَ مَعَ الْعِلْمِ فَقَالَ: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ."
كي يصل الإنسان إلى وجهة ما فإنه يحتاج إلى خارطة طريق ترشده وإلى دابة أو آلة توصله. كذلك العقل يحتاج إلى دليل يرشده وإلى مطية يمتطيها فتوصله، فما هما؟ يقول :"يَا هِشَامُ لِكُلِّ شَيْءٍ دَلِيلٌ، وَدَلِيلُ الْعَاقِلِ التَّفَكُّرُ، وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةٌ، وَمَطِيَّةُ الْعَاقِلِ التَّوَاضُعُ"
يقول : "يَا هِشَامُ مَا بَعَثَ اللَّهُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللَّهِ (أي ليعرفوا الله وأسماءه وصفاته) فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا وَأَعْقَلُهُمْ أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ".
العقل والهوى لا يجتمعان، فكل ما يعين الهوى يعين على العقل ويساهم في هدم بنيانه وسقوطه.
يقول الإمام عليه السلام: يَا هِشَامُ مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ. مَنْ أَظْلَمَ نُورَ فِكْرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَ دُنْيَاهُ.
إذن الآفات الثلاث التي تقوض البناء العقلي هي: طول الأمل ولغو الكلام والاسترسال مع الشهوات.
يقول عليه في عبارة دقيقة تتسلسل منطقيا كي تبين أن العقل أساس النجاة: يَا هِشَامُ نُصِبَ الْخَلْقُ لِطَاعَةِ اللَّهِ. وَلَا نَجَاةَ إِلَّا بِالطَّاعَةِ، وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ. وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ. وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ يُعْتَقَدُ. وَلَا عِلْمَ إِلَّا مِنْ عَالِمٍ رَبَّانِيٍّ؛ وَمَعْرِفَةُ الْعَالِمِ بِالْعَقْلِ.
حسابات العاقل دقيقة جدا، يعرف لكل شيء قدره، ويعطي كل شيء وزنه. وهو بصير بالأولويات، فلا ينشغل بصغائر الأمور وتوافهها على حساب العظائم.
يقول : يَا هِشَامُ إِنَّ الْعُقَلَاءَ تَرَكُوا فُضُولَ الدُّنْيَا فَكَيْفَ الذُّنُوبَ؟ وَتَرْكُ الدُّنْيَا مِنَ الْفَضْلِ، وَتَرْكُ الذُّنُوبِ مِنَ الْفَرْضِ. يَا هِشَامُ إِنَّ الْعُقَلَاءَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَرَغِبُوا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا طَالِبَةٌ وَمَطْلُوبَةٌ، وَالْآخِرَةَ طَالِبَةٌ وَمَطْلُوبَةٌ، فَمَنْ طَلَبَ الْآخِرَةَ طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا طَلَبَتْهُ الْآخِرَةُ فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.
يقول : يَا هِشَامُ مَنْ أَرَادَ الْغِنَى بِلَا مَالٍ، وَرَاحَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحَسَدِ، وَالسَّلَامَةَ فِي الدِّينِ؛ فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللَّهِ فِي مَسْأَلَتِهِ بِأَنْ يُكَمِّلَ عَقْلَهُ. فَمَنْ عَقَلَ قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ، وَمَنْ قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ اسْتَغْنَى. وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا يَكْفِيهِ لَمْ يُدْرِكِ الْغِنَى أَبَداً.