شمس الدين والمواطنة
الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936-2001م) كان ممن حاول الاستفادة من وثيقة أو صحيفة المدينة في التكييف الفقهي لمسألة المواطنة في أخريات حياته، حيث لم يكن يتبنى من قبل هذا المفهوم. في التسعينات من القرن الماضي انتقل شمس الدين من مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة الموحدة في كيان سياسي إلى مفهوم الوطن المتنوع القائم على وحدة الدولة بمفهومها الحديث.
في كتابه (في الاجتماع السياسي الإسلامي – المجتمع السياسي الإسلامي محاولة تأصيل فقهي وتاريخي) أفرد الشيخ شمس الدين ملحقا خاصا بوثيقة المدينة تحت عنوان (الصحيفة/ الكتاب) استغرق 42 صفحة احتوى على نص الوثيقة وما يمكن أن يستفاد منها على مستوى الفقه السياسي. وقد توصل من خلال نص الوثيقة إلى "أن الإسلام يقبل فكرة تأسيس مجتمع سياسي متنوع في دولة واحدة، ونظام حكم واحد، على أساس الإسلام، يتمتع الجميع فيها بحق المواطنة الكاملة".
فعند البند السادس عشر من الوثيقة الذي نصه:" وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر (والمعروف) والأسوة غير مظلومين، ولا متناصَر عليهم" يستنتج أن هذا البند يظهر بوضوح: إن المجتمع السياسي الذي أنشأته الوثيقة، هو مجتمع تعاقدي متنوع في انتمائه الديني.
كما يقف عند نص آخر في الوثيقة يقول: " وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيته" ليعلق عليه بالقول: وهذه العبارة ذات دلالة عظيمة الأهمية، فإن الظاهر منها كونهم يشكلون (أمة) بالمعنى السياسي، وقوله: "لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم" يظهر عنصر التنوع في المجتمع، فيكون المجتمع الجديد (أمة واحدة) بالمعنى السياسي، متنوعة الانتماء الديني، لأنها تتشكل من أمتين بالمعنى العقيدي.
وهذا الاستنتاج مساوق بالفعل لما ذهب إليه الدكتور يوسف القرضاوي من وجود مصطلحين هما: أهل الملة وأهل الدار.
إن اشتغال الشيخ شمس الدين بالسياسة وانخراطه فيها من خلال تسنمه موقع الرئاسة الفعلية في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان بعد تغييب الإمام موسى الصدر، جعل فقهه السياسي في حالة حراك دائم مما طور مفهوم المواطنة عنده.
يقول الدكتور حسين رحال في كتاب (المواطنة والدولة): مع الأخذ بعين الاعتبار النقد الجذري الذي يقدمه شمس الدين للفكر الإسلامي السياسي، يبدو مفهوم المواطنة على النموذج الغربي هو أساس فكرة الوطن. وتعطى الدولة بنموذجها الغربي، على يد شمس الدين، الشرعية الكاملة لتجاوز الأفكار السابقة (له وللإسلاميين الآخرين) حول الدولة والحكومة الإسلامية سواء الموحدة أو المجزأة وتصبح مفردة المجتمع، ومفردة الوطن، ومفردة المواطن، هي الحاضرة بدل الدولة الإسلامية.
إذ يتجاوز تحفظاته السابقة ليرسي قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين في الدولة الحديثة, وبذلك لا يعود هناك أي مانع من تولي غير المسلم لأية وظيفة وتحمّل أية مسؤولية في الدولة الحديثة.
وانطلاقا من إيمانه العميق بهذا المفهوم فقد دعا جميع الشيعة في العالم إلى الاندماج في أوطانهم، وإلى أن يكون مشروع الدولة الوطني هو مشروعهم المشترك مع سواهم من المواطنين.
ينبغي أن نشير أخيرا إلى ضرورة توفر قراءات نقدية للنتاج الفقهي السياسي للشيخ شمس الدين وغيره، وذلك من خلال حضور فقه الدولة بشكل أوسع في دروس بحث الخارج التي تخصص لطلاب المرحلة العليا في الفقه والأصول.