وعد وبشارة
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)﴾ القصص.
بيان إلهي عظيم يحمل البشارة للمستضعفين في الأرض الذين يتعرضون لشتى أنواع الحصار والضغوط والتضييق، ويذوقون أقسى المرارات من فراعنة زمانهم من قتل وتعذيب وتنكيل وانتهاك للحرمات.
يأتي هذا البيان ليرسم النهاية غير المتوقعة لمستضعفي بني إسرائيل بعد أن أوضحت الآية السابقة شدة بطش فرعون، وجرائمه التي يرتكبها في حق الإنسانية، من قتل المواليد الذكور من بني إسرائيل دون أي ذنب، واستبقاء للإناث ليصبحن بعد ذلك خادمات عند الأقباط يمتهنونهن ويستعبدونهن؛ كل ذلك إرضاء لشهوة السلطة وخوفا على كرسي الحكم.
يأتي هذا البيان بصيغة جازمة مفخمة بضمير الجمع الذي يوحي بعظمة المريد سبحانه ﴿وَنُرِيدُ﴾ كأن الحادثة ستقع رغم أنها وقعت وانتهت، وفي ذلك استحضار للقصة كأن أحداثها تقع الآن بين عيني المتلقي، كما أن صيغة الفعل المضارع (وَنُرِيدُ) تعني أن الإرادة الإلهية مستمرة ولا تختص بمستضعفي بني إسرائيل مع فرعونهم، بل هي سنة اجتماعية.
وإذا كان المريد هو الله القادر على كل شيء، فلا بد للإرادة أن تتحقق.
أيا كانت الخطط التي أحكمها فرعون وزبانيته، وأيا كان البطش والقتل والتنكيل الذي يمارسه فرعون وجلاوزته أو بلطجيته بمصطلحنا اليوم، وأيا كانت الاحتياطات التي تقوم بها أجهزته الأمنية والمخابراتية، فإن ذلك لن ينفع أمام إرادة الله سبحانه، كأنه تعالى يقول: فرعون يريد ونحن نريد، ولا يكون إلا ما نريد.
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾: المن هو إسداء النعمة العظيمة، وليست أي نعمة. تأمل قوله تعالى في النعمة الكبرى بعثة النبي :﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ .
وحصول الشعوب على حرياتها وخلاصها من استبداد فراعنتها وديكتاتوريتهم من أكبر النعم التي ينبغي السعي لتحصيلها. إن دوام الحال من المحال، وفرعون لا محالة إلى زوال، والمستضعفون المقهورون المستذَلون سيصبحون القادة الجدد، وسيتحول موقفهم من أتباع إلى متبوعين، ومن محكومين إلى حكام، ومن مسلوبي الإمكانات إلى متمكنين (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) .
1- قوله تعالى ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ أتى بالاسم الظاهر الدال على سوء حالهم ﴿الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ بدل الضمير، كأن يقول: ونريد أن نمن عليهم؛ لأن الإتيان بالاسم أوضح في بيان متعلق النعمة التي ستحل عليهم وعظمها، وفي بيان قدرة الله الذي يرفع المستضعفين ويضع المستكبرين.
2- هذه الإرادة في شأن المستضعفين سنة ماضية، ولكنها لا تتحقق لأي مستضعفين مجانا دون شروط؛ بل لا بد من وجود الأهلية والاستعداد لدى المستضعفين لمقاومة المستكبرين والصبر حتى النهاية.
الآية التالية تكشف أن التغيير الذي حدث لبني إسرائيل مرجعه أولا إلى ما تحلوا به في ذاتهم فجعلهم أهلا للتغيير، وهو الصبر ﴿بِما صَبَرُوا﴾.
يقول تعالى:﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ﴾ . كما يمكن أن يستفاد ذلك من ﴿مْهُمْ﴾في قوله تعالى: ﴿ونُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾ ، حيث يجري ما يجري على أيديهم.
إذن منة التحرر من الاستبداد لا تكون لكل مستضعف بما هو مستضعف، فمن يختار طريق التبعية والعبودية سيبقى فيه حتى يلقى مصيره المحتوم يوم القيامة، فيندم على سكوته على الظلم ومساندته له ووقوفه بجانبه، يقول تعالى: ﴿ولوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾.
3- فرعون ليس اسم شخص بعينه، بل هو لقب للمنصب الذي يتولاه، تماما كالملك والرئيس، وكسرى ونجاشي وقيصر. وقد يكون هامان كذلك، أي لقبا لمنصب الوزير الأول وليس اسما له. والله أعلم. وفرعون لا يكون بالطبع لوحده، بل له وزراء أعوان وجنود من مثقفين متملقين، وإعلاميين طبالين، ومتنفذين منتفعين، وبلطجية مجندين. وكل هؤلاء شركاء معه، يلاقون مصيره ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ﴾، فلا ينبغي إذن أن يفلتوا من العقاب.
4- تكرر لفظ ﴿وَنَجْعَلَهُمْ﴾ وهذا يعني أن كونهم أئمة لا يقتضي بالضرورة أن تكون السلطة بأيديهم، أي وارثين، فتلك نعمة أخرى، كما إن التمكين وتثبيت السلطة نعمة ثالثة.
5- من أشد المواقف على الظالم أن يشهد انهيار خططه وتدبيراته على يد من كان يذلهم ويستضعفهم، ويكتشف هو ومن حوله أن بيوتهم أوهن من بيت العنكبوت، وأن ما كانوا يحذرونه قد وقع برغم كافة الاحتياطات، لأنهم نسوا أن يد الله تصل إلى حيث تريد.
6- وردت كثير من الروايات التي تربط هذه الآية بظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه) آخر الزمان، وذلك لأن الإمام المهدي هو أجلى مصاديق هذه الآية .