حب بحب
أن تكون حبيب الله، فهذا غاية المنى، ومنتهى المسعى. في مثل ذلك يتنافس المتنافسون الحقيقيون، تاركين غيرهم يتنافس على ملذات الدنيا وحطامها. وهم في تنافسهم الشريف مستعدون لبذل الغالي والنفيس، وتقديم القرابين تلو القرابين مشفوعة بالرضا ما دامت في طريق الوصول إلى المحبوب. يستأنسون بما يستوحش منه غيرهم، ويستلذون مما لا يجد الآخرون لذته لأن أرواحهم معلقة بالمحل الأعلى، وإن كانت أبدانهم في الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. فلسان حالهم دائما وأبدا:
تركتُ الخلق طرا في هواكا
وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إربا
لما مال الفؤاد إلى سواكا
هؤلاء هم الذين يبادلهم الله تعالى حبا بحب، فيمنحهم الجائزة الكبرى، والنعيم المقيم ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾.هذا ما يقوله الحديث القدسي التالي الذي يحتاج إلى تأمل في كل معنى من معانيه الجميلة العذبة.
يا داود !.. أبلغ أهل أرضي أني حبيب من أحبني ، وجليس من جالسني ، ومونس لمن أنس بذكري ، وصاحب لمن صاحبني ، ومختار لمن اختارني ، ومطيع لمن أطاعني ، ما أحبني أحد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي ، وأحببته حباً لا يتقدمه أحد من خلقي .
من طلبني بالحق وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني ، فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها !.. وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي ومؤانستي !.. وآنسوني أؤنسكم ، وأسارع إلى محبتكم.
وأوحى الله إلى بعض الصدّيقين : أنّ لي عباداً من عبيدي يحبوني وأحبّهم ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكُرهم ، فإن أخذت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتّك.
قال : يا ربّ !.. وما علامتهم؟.. قال : يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الشفيق غنمه ، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها عند الغروب ، فإذا جنّهم الليل ، واختلط الظلام ، وفُرشت الفرش ، ونُصبت الأسرة ، وخلا كل حبيب بحبيبه ، نصبوا إليّ أقدامهم ، وافترشوا إليّ وجوههم ، وناجوني بكلامي وتملّقوني بأنعامي ، ما بين صارخ وباكٍ ، وبين متأوّه وشاكٍ ، وبين قائم وقاعد ، وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحمّلون من أجلي ، وبسمعي ما يشكون من حبّي ، أوّل ما أعطيهم ثلاثاً :
الأوّل : أقذف من نوري في قلوبهم ، فيخبرون عنّي كما أُخبر عنهم .
والثاني : لو كانت السماوات والأرضون وما فيهما من مورايثهم لاستقللتها لهم .
والثالث : أقبِل بوجهي عليهم ، أفترى من أقبلت عليه بوجهي يعلم أحد ما أريد أن أعطيه ؟
دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.