لقاء شعيب
﴿فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)﴾ القصص.
بعد أن سقى للفتاتين ذهب يستريح تحت ظل شجرة، ودعا ربه أن يرزقه ما يسد به رمقه ويستبقي به قوته. وسرعان ما استجاب الله دعاءه، وكافأه على عمله وخدمته وقضائه حاجة الآخرين أضعافا مضاعفة. جاءته إحدى الفتاتين تمشي مشية تدل على عفتها وطهارتها وحيائها، وأخبرته بقول موجز بدعوة أبيها له ليكافئه على عمله. استجاب موسى للدعوة، فكان اللقاء بينه وبين نبي الله شعيب عليه السلام الذي سأله عن أحواله وأمره، فقص عليه موسى قصته، وطمأنه بعدها شعيب أنه أصبح الآن آمنا لأنه خارج مملكة فرعون، وكان في هذا التطمين تحقيق لدعائه عليه السلام حين قال: ﴿رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.
هنا تتدخل المرأة في حياة النبي موسى مرة أخرى لتكون خيرا عليه، كما كانت أمه وأخته، وكما ستكون امرأة فرعون. فها هي الفتاة التي قدمت له دعوة أبيها، تقترح على أبيها استئجاره ليقوم بما يقومان به من عمل اضطرارا فيكفيهما ذلك. وقد بينت لأبيها بوضوح المؤهلات التي يملكها هذا الرجل الغريب للقيام بالوظيفة المطلوبة بقولها: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾. "إذ لاحظت قوته وهو ينحي الرعاء عن البئر ويملأ القربة الثقيلة لوحده ويطالب بحق المظلوم، وأمّا أمانته و صدقه فقد اتّضحا لها منذ أن سارت أمامه إلى بيت أبيها، فطلب منها أن تتأخر ويتقدمها، لئلا تضرب الريح ثيابها!" .
رضي شعيب بالاقتراح، ثم طوره بأن اقترح تزويجه إحدى البنتين وأن يكون مهرها استئجاره 8 سنوات، ويمكن اختيارا أن يجعلها 10 سنوات. قبل موسى عليه السلام الاقتراح وأشهد الله ووكله على ذلك، وأن له الخيار في قضاء أي المدتين المضروبتين.
1-هناك بركات كثيرة لقضاء حوائج الناس. فما إن قضى موسى حاجة واحدة للفتاتين حتى قضى الله له حاجات، إذ آمنه من الخوف ونجاه من القوم الظالمين، وآواه من وحشة الغربة إلى منزل عامر بالإيمان، وأطعمه بعد جوع، وزوجه بعد وحدته، وضمن له إقامة مستقرة لعشر سنوات في ظل نبي عظيم بعد أن خرج من المدينة خائفا يترقب.
في الرواية عن الإمام الصادق : ما قضى مسلم لمسلم حاجة إلا ناداه الله تبارك وتعالى: عَلَيَّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنة.
2- الالتفات للمحسن والإحسان، والقيام بما يجب نحوهما. هذا ما فعله شعيب عليه السلام، حيث قام بدعوة موسى لمجازاته: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا﴾. هذا تعليم لنا لنمارس هذا الخلق من مكافأة وتكريم أهل الخير والإحسان الذين يقدمون خدماتهم للآخرين بغض النظر عن حجم تلك الخدمات.
3- على المرأة أن لا تكتفي بستر جسدها، بل أن نتنبه إلى لغة الجسد وتعبيراته، وما يتعلق به كالصوت ونبرته مثلا، كما يقول تعالى: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا﴾. ونلحظ هنا كيف عبر القرآن عن مشية العفاف التي كانت تمشيها تلك الفتاة بقوله تعالى ﴿تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ﴾ كأن الأرض مفروشة بالحياء وهي تطؤها، فلا تقع منها خطوة إلا على حياء. فتنكير (استحياء) وجرها بحرف (على) الدال على الاستعلاء تفخيم وتعظيم للحياء الذي تنشده وتمارسه. يقول الإمام علي عليه السلام: على قدر الحياء تكون العفة.
4- حديث المرأة مع الأجنبي ينبغي أن يقتصر على الضرورة فقط، وأن تراعي المرأة تأدية المعنى المطلوب بعبارات موجزة مقتضبة، تماما كما فعلت ابنة شعيب حين أوصلت دعوة أبيها باختصار غير مخل: ﴿إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا﴾. وما نلاحظه للأسف من مظاهر تبسط المرأة في الحديث مع الأجانب خصوصا في أماكن العمل المختلطة لا يتماشى مع تعليمات القرآن وتوجيهاته، وآثاره السلبية غير خافية على أحد.
5- إجابة الدعوة من الأخلاق الاجتماعية المطلوبة. وهذا ما فعله موسى عليه السلام حين استجاب لدعوة شعيب عليه السلام.
6- تفقد أحوال الآخر وسؤاله عن شؤونه، خصوصا إذا كان غريبا. وهذا يساهم في زيادة التعرف عليه، وتوطيد العلاقة معه، وتشجيعه على التعبير عن نفسه وحاجاته، وربما تقديم المساعدة له عند الحاجة.
7- بعد الاستماع للآخر، من المهم إيصال رسالة إيجابية له تؤكد على إصغائنا التام له واستيعابنا لما قاله، واكتشافنا ما يبحث عنه ويشغل باله. ﴿قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾.
8- الانفتاح بين الأب وابنته ضروري جدا، وهذا ما شجع البنت على تقديم الاقتراح باستئجار موسى.
9- الكفاءة والأمانة هما الأساس المعياري للتوظيف والتعيين وتقلد المناصب. الكفاءة التي تعني المعرفة والقدرة المناسبتين للمهمة المناطة مضافة إلى أمانة اليد والنفس. لقد ضاعت أمتنا بسبب عدم وضعها الشخص المناسب في المكان المناسب، فالمناصب بالولاءات لا بالكفاءات، وفي أفضل الأحيان يتم تعيين الأمين الذي لا يتمتع بكفاءة مناسبة. وكلا الأمرين بلاء؛ القوي الخائن، والأمين الضعيف.
10- الإنصات للاقتراحات وتطويرها. هذا ما فعله شعيب عليه السلام كما ذكرنا.
11- للأب أن يختار زوجا لابنته كما يختار لولده، وهذا ليس أمرا معيبا كما هو شائع في مجتمعنا. ونلاحظ أيضا التفات نبي الله شعيب لطلب ابنته الذي لا تستطيع البوح به حياء، فما إن قدمت اقتراحها باستئجار موسى، حتى بادر شعيب بعرض الزواج عليه دون أن يعين البنت زيادة في حفظ مشاعرها وكتم رغبتها. ويستفاد من ذلك أيضا ضرورة تفهم الدوافع الحقيقية لظواهر الأفعال وإبداء حساسية وفهم خاص لحديث الفتاة. كما يستفاد ضرورة تفهم أحوال الناس، فعندما عرض شعيب على موسى الزواج من إحدى ابنتيه لم ينتظر منه الشكوى من ضيق اليد بل أعطاه الحل حفظا له وصونا لكرامته، وترك له فرصة الإحسان والتفضل: ﴿فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾.
12- لا بد دائما في أي اتفاق أن تكون بنوده واضحة معلومة للجميع حتى لا يقع خلاف بعد ذلك.
13- المعاملة بين الناس ينبغي أن يكون أساسها التيسير والتسامح وعدم المشقة على الآخر ﴿وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ﴾. هكذا يجب أن يكون تعاملنا مع أُجَرائنا من عمال وخدم وغيرهم.
14- بيان أهلية الشخص ولياقته لعمل ما أو عقد ما لا يعتبر تزكية للنفس، بل هو مطلوب كما قال شعيب عليه السلام ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
15- إشهاد الله وتوكيله وإرجاع الأمر إليه مما يوثق العقود ويعطيها ضمانة أكبر.
16- التعبير بالحجج بدل السنوات دليل على وجود الحج سابقا، هذا ما ذكرته الروايات أيضا. ففي تفسير العياشي: قال الحلبي سئل أبو عبد الله عن البيت أ كان يحج قبل أن يبعث النبي قال: نعم- وتصديقه في القرآن قول شعيب قال لموسى حيث تزوج ﴿عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ﴾ ولم يقل ثماني سنين، وإن آدم ونوحا حجا و سليمان بن داود قد حج البيت بالجن والإنس و الطير والريح- و حج موسى على جمل أحمر يقول لبيك لبيك، وإنه كما قال الله: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ﴾ و قال: ﴿وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ﴾ و قال ﴿أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ- وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ و إن الله أنزل الحجر لآدم و كان البيت .