نداء الوحي
﴿فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) ﴾القصص.
في هذه الآية الكريمة يتجلى ما طوي من سنوات عشر قضاها موسى في مدين، حيث لم تتعرض الآيات لشيء مما كان يفعله موسى في تلك السنوات. ولكن هذه الآية تكشف لنا بلوغه مرتبة عالية عظيمة تجعله أهلا لتلقي النداء الإلهي وتحمل الرسالة الربانية، مما ينبئ عن المستوى السامي من الجهاد الأكبر الذي بذله خلال فترة مكوثه مع النبي المعلم.
أتى موسى النار التي كان أقصى ما يرجوه منها أحد أمرين أو كليهما: دليل يدله على الطريق وقبسة يوصلها لأهله تؤمن لهم تدفئة ولو مؤقتة. ولكن النار شكلت هي الأخرى كما الماء منعطفا آخر في حياته ، بل المنعطف الأعظم. فها هو يستمع الآن لنداء من شاطئ الوادي الأيمن أي جانب الطور الأيمن المذكور في سورة مريم: ﴿وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52).﴾ إذن هو جانب طور سيناء الجامع لليمين جهةً ولليُمن أثرا أي اليمين الميمون، في البقعة المباركة التي قال الله تعالى فيها لموسى: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً﴾. وكان مبدأ النداء والتكليم ﴿مِنَ الشَّجَرَةِ ﴾ التي لم تكن إلا حجابا احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب، كما قال صاحب الميزان. وفي هذا يقول أمير المؤمنين علي : ﴿كَلَّمَ مُوسى تَكْلِيماً بِلَا جَوَارِحَ وَأَدَوَاتٍ وَلَا شَفَةٍ وَلَا لَهَوَاتٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنِ الصِّفَاتِ﴾ .
إذن لقد بلغ أسمى المراتب وتقلد أعلى الأوسمة، وأنس باللذة العظمى، لذة المناجاة الخاصة مع الله تعالى، وذلك بسبب تهذيب نفسه وجعلها خالصة مخلَصة لله، كما قال تعالى في سورة مريم:﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)﴾.
وقفات:
1- التعبير بلفظ الفعل المبني للمجهول ﴿نُودِيَ﴾ قد يكون للتركيز على النداء العظيم.
2- البقاع ليست كلها واحدة، بل بينها تفاضل، وهذا التفاضل جارٍ في الكون كله. فهناك شجرة مباركة، وإنسان مبارك، وبقعة مباركة، وليلة مباركة، وكتاب مبارك،... الخ. وهذه المباركة لا تكون اعتباطا، فالبقعة المباركة هنا أصبحت كذلك لتشرفها بالنداء والتقريب والتكليم الإلهي.
3- حدد الله تعالى محالا لفيض رحمته ينبغي علينا أن لا نحيد عنها يمينا أو شمالا، تماما كما حدد موضع التقريب والتكليم في ﴿شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ﴾، فلو ذهب موسى للشاطئ الأيسر لن يجد شيئا، ولو تباعد قليلا عن الجانب الأيمن لن يجد شيئا، بل لا بد من الالتزام بهذا الوصف الدقيق للوصول.
وهذا الأمر ينطبق على المعارف الإلهية والأحكام الدينية حيث يجب غرفها من مصادرها الصحيحة المتمثلة في الكتاب والعترة. يقول الإمام الباقر لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرقا وغربا. لن تجدا علما صحيحا إلا شيئا يخرج من عندنا أهل البيت .
4- نحن لا ندرك أبعاد التشريع وعلله، وقد تبدو بعض التفاصيل كأنها هامشية أو غير مهمة، كأن تقدم رجلك اليمنى لدخول المسجد، أو أن تتناول الأكل باليد اليمنى، فقد يقول قائل: ما الفرق بينهما.
بالطبع في الشكل الظاهري لا يبدو ثمة فرق، ولكن إيماننا بحكمة الشارع المقدس يجعلنا نلتزم بذلك مدركين إجمالا بأن الخير في ذلك، فاليُمن في اليمين. كما أن الالتزام بتلك التفاصيل تجعل حياتنا قائمة على الانضباط والدقة، وليس على العبثية والعشوائية.
5- تعظيم المقدسات والشعائر وإجلالها يكون بالفعل الخارجي المنبعث من تقوى القلوب. فقد طلب الله تعالى في هذا الموقف من موسى أن يخلع نعليه لأنه بالوادي المقدس.
6- نداء الآخرين بأسمائهم محبب ويساعد على الألفة والمودة. ﴿يا مُوسى﴾
تحدثت الآيات عن هذا الموقف بتفاصيل مختلفة في سور مختلفة، ففي سورة القصص: ﴿فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30)﴾. وفي سورة النمل: ﴿فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)﴾. وفي سورة طه: ﴿فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)﴾.
ويبدو – والله العالم – أن النداء الأول هو الذي ورد في سورة القصص : إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. حيث يفصح عن مصدر الكلام وأنه بصيغة التوكيد بأنه الله رب العالمين، فهو ينبئ عن الذات المتعالية ( الله ) المربية المالكة المدبرة لكل العالم. ثم كان النداء الثاني في سورة النمل الذي يدل على قرب أكثر من النار ﴿أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها﴾، وعن تنزيه الله عن الحلول في النار أو في الشجرة بقوله ﴿وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ﴾ ثم النداء والتعريف بصفات إلهية أخرى تتناسب ومصدر الرسالة ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.
أما النداء الثالث، فيظهر -والله أعلم- منه القرب الأكثر من خلال التعبير بقوله: ﴿إِنِّي أَنَا رَبُّكَ﴾ ومن خلال الأمر بخلع النعلين للاستعداد لتلقي الرسالة، ثم تفصيل أصول الرسالة من توحيد ونبوة ومعاد.
هذا كله على سبيل الاحتمال، والله أعلم بواقع الحال.
7- لا خلاف بين المسلمين أن الله متكلم. ولكنهم اختلفوا في ماهية وحقيقة كلامه تعالى. وانجر هذا الاختلاف إلى القرآن باعتباره كلام الله، فهل هو مخلوق أو غير مخلوق، أي هل هو قديم أو محدث. وقد جرهم هذا الاختلاف – وبسبب تدخل العامل السياسي – إلى تكفير بعضهم بعضا، وأريقت في ذلك الدماء المحترمة.
يتحدث السيد الخوئي رحمه الله في كتابه البيان في تفسير القرآن عن ذلك بحرقة قائلا: فكم هتكت في الإسلام من أعراض محترمة، وكم اختلست من نفوس بريئة، مع أن القاتل والمقتول يعترفان بالتوحيد، ويقران بالرسالة والمعاد. أليس من الغريب أن يتعرض المسلم إلى هتك عرض أخيه المسلم وإلى قتله؟ وكلاهما يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عنده، وأن الله يبعث من في القبور. أولم تكن سيرة نبي الإسلام وسيرة من ولي الأمر من بعده أن يرتبوا آثار الإسلام على من يشهد بذلك؟ فهل روى أحد أن الرسول أو غيره ممن قام مقامه سأل أحدا عن حدوث القرآن وقدمه، أو عما سواه من المسائل الخلافية، ولم يحكم بإسلامه إلا بعد أن أقر بأحد طرفي الخلاف؟!! ولست أدري - وليتني كنت أدري - بماذا يعتذر من ألقى الخلاف بين المسلمين وبم يجيب ربه يوم يلاقيه، فيسأله عما ارتكب؟ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لقد وقف أهل البيت من هذه المسألة موقفا واعيا لو أخذ به المسلمون من أشاعرة وغيرهم لما وصلوا إلى ذلك، ولكن!!!!.
كتب الإمام علي الهادي إلى بعض شيعته ببغداد: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* عَصَمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الْفِتْنَةِ فَإِنْ يَفْعَلْ فَقَدْ أَعْظَمَ بِهَا نِعْمَةً وَإِنْ لَا يَفْعَلْ فَهِيَ الْهَلْكَةُ. نَحْنُ نَرَى أَنَّ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ بِدْعَةٌ اشْتَرَكَ فِيهَا السَّائِلُ وَالْمُجِيبُ، فَيَتَعَاطَى السَّائِلُ مَا لَيْسَ لَهُ وَيَتَكَلَّفُ الْمُجِيبُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْخَالِقُ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ. وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَا تَجْعَلْ لَهُ اسْماً مِنْ عِنْدِكَ فَتَكُونَ مِنَ الضَّالِّينَ جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ مِنَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ .
8-هناك فكرة هامة نجدها في تفسير الإمام الصادق لهذه الآية، إذ يقول: (كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى ابن عمران ذهب يقتبس نارا لأهله، فانصرف إليهم و هو نبيّ مرسل )