أحبك حتى في النار
كيف تستطيع أن تقترب من نصوص العاشقين وأنت خالي الوفاض من أي عُدة أو أدوات تعينك على ذلك؟ كيف تستطيع أن تستوعب حالات الوله والهيام التي تستبد بالعاشقين وأنت لم تصل بعد إلى أدنى درجات الحب ومراتبه؟
حين نقرأ النصوص المستهامة الغارقة في الحب الذي لا يمسه إلا المخلِصون المخلَصون، سنكتشف أننا لم نتذوق طعم الحب الحقيقي بعد، وأن الطريق إليه بعيد المسافة، وأن زادنا قليل وراحلتنا ضعيفة منهكة.
كيف يمكننا نحن الراتعين في مراعي الغفلة، المشغوفين بحب الدنيا حتى الثمالة، أن نستوعب هذا النص الشريف الوارد عن الإمام علي (عليه السلام) في المناجاة الشعبانية الذي يقول:"إِلَهِي إِنْ أَخَذْتَنِي بِجُرْمِي أَخَذْتُكَ بِعَفْوِكَ وَإِنْ أَخَذْتَنِي بِذُنُوبِي أَخَذْتُكَ بِمَغْفِرَتِكَ وَإِنْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ أَعْلَمْتُ أَهْلَهَا أَنِّي أُحِبُّك".
هل يمكن أن نتخيل مثل هذا؟ أي أن يقوم شخص يتقلب في النار وعذابها الأليم الذي دونه كل عذاب، أن يقوم بالإعلان لأهل النار عن حبه لله تعالى؛ فحتى النار لا تشغله عن هذا الأمر.
يقول الإمام الخميني في رسالة أبوية ووصية عرفانية بعنوان (خمرة العشق)، موجهة للسيدة فاطمة الطباطبائي، زوجة ولده السيد أحمد. يقول فيها معلقا على المقطع التالي الوارد في دعاء كميل:"فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك".
يعلق قائلا:"أنا الأعمى القلب لم أستطع حتى الآن أن أقرأ بجد هذه الفقرة وبعض الفقرات الأخرى في هذا الدعاء الشريف بل أقرأها بلسان علي عليه السلام ولا أعلم ما هو ذلك الذي الصبر عليه أشد من الصبر على عذاب الله في جهنم ذلك العذاب الذي (ناره) تطلع على الأفئدة.كأن (عذابك) هو (نار الله) التي تحرق الفؤاد.. لعل هذا العذاب فوق عذاب جهنم ..
نحن عمي القلوب لا نستطيع إدراك وتصديق هذه المعاني التي هي فوق الفهم البشري. فاضربي الصفح.. ولنضرب صحفاً.. (دعي هذا ولندعه) لأهله الذين هم قليلون جداً..".
وأقول: إذا كان شخص من أهل الفقه والعرفان كالإمام الخميني يقول هذا الكلام، فكيف بأمثالي من القاصرين المقصرين؟
سنقف بالتأكيد عاجزين عن فهم واستيعاب ما يقوله الإمام زين العابدين في الدعاء المعروف ب (دعاء أبي حمزة الثمالي) حين يدعو قائلا:"إِلَهِي لَوْ قَرَنْتَنِي بِالْأَصْفَادِ وَمَنَعْتَنِي سَيْبَكَ مِنْ بَيْنِ الْأَشْهَادِ وَدَلَلْتَ عَلَى فَضَائِحِي عُيُونَ الْعِبَادِ وَأَمَرْتَ بِي إِلَى النَّارِ وَحُلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْأَبْرَارِ مَا قَطَعْتُ رَجَائِي مِنْكَ وَمَا صَرَفْتُ تَأْمِيلِي لِلْعَفْوِ عَنْكَ وَلَا خَرَجَ حُبُّكَ مِنْ قَلْبِي".
وسنقف متحيرين عند المقطع الآخر من نفس الدعاء الذي يقول نصه: "لَئِنْ طَالَبْتَنِي بِذُنُوبِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِعَفْوِكَ وَلَئِنْ طَالَبْتَنِي بِلُؤْمِي لَأُطَالِبَنَّكَ بِكَرَمِكَ وَلَئِنْ أَدْخَلْتَنِي النَّارَ لَأُخْبِرَنَّ أَهْلَ النَّارِ بِحُبِّي لَكَ".
لقد علمنا أهل البيت أن " كل بلاء دون النار عافية"، ولكنهم علمونا بهذه النصوص أن الحب الحقيقي عصي على الزوال حتى مع أشد البلاء في النار والعياذ بالله.
أخيرا نقتطف من دعاء أبي حمزة مقطع الحب التالي: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَمْلَأَ قَلْبِي حُبّاً لَكَ وَخَشْيَةً مِنْكَ وَتَصْدِيقاً لَكَ وَإِيمَاناً بِكَ وَفَرَقاً مِنْكَ وَشَوْقاً إِلَيْكَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ حَبِّبْ إِلَيَّ لِقَاءَكَ وَأَحْبِبْ لِقَائِي وَاجْعَلْ لِي فِي لِقَائِكَ الرَّاحَةَ وَالْفَرَجَ وَ الْكَرَامَةَ".
جمعتكم مباركة.. أحبكم جميعا.. دمتم بحب..