المبادئ أولا
﴿وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)﴾ سورة غافر
حديثنا عن مؤمن آل فرعون، واسمه كما في الروايات (حزقيل)، وذكرت الرواية عن الإمام علي بن موسى الرضا أنه ابن خال فرعون ، وفي رواية أخرى عن الإمام محمد الباقر أنه كان خازن فرعون ، أي وزير الخزانة أو المالية بالاصطلاح الحديث، وفي التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام أنه ابن عمه وولي عهده . وأيا كان الحال فهو من ذوي النفوذ من حاشيته المقربين. هذا عن منصبه. كما تذكر الروايات وصفا آخر له هو عبارة عن إعاقة في يده، إذ تصفه بأنه كان (مُكَنع الأصابع) ، أي معقوفها.
ومع ذلك فإن المؤمن يترك أثرا أينما كان وفي أي موقع، ورغم كل إعاقة، فهو صاحب موقف مبدئي يتمظهر في صور مختلفة تبعا للظروف المحيطة به، ولكنه لا يغادر مبدئيته؛ فتارة تقتضي الظروف المواجهة المباشرة، وأخرى تقتضي المواجهة غير المباشرة، وهذه كلها أساليب وأدوات تقع في خانة المتغير. وهذه الآية المباركة تسجل موقفا عظيما له، ولنا معها وقفات.
وقفات:
1- جاء هذا القول/ الموقف من مؤمن آل فرعون بعد أن قال فرعون لمن حوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ﴾ .
فرأى هذا الرجل المؤمن أن الموقف يستدعي التدخل السريع لإنقاذ حياة موسى عليه السلام.
2- هذا الرجل لم يكن شخصا عاديا، بل كان من القبط ( آل فرعون ) وليس من بني إسرائيل قوم موسى. أي أنه كان ينتمي للفئة الحاكمة. وكان بالإضافة لذلك صاحب مركز ونفوذ، كما ذكرنا؛ أي كان مقربا من فرعون ومنتميا لطائفة القبط التي بيدها السلطة، إلا أن مركزه الوظيفي وقرابته النسبية وانتماءه الطائفي كل ذلك لم يمنعه من الإيمان بالحق الذي جاء به موسى عليه السلام المنتمي لطائفة أخرى، بل ولم يمنعه من اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب. فالمبدأ فوق المصالح والانتماءات الضيقة. وفي هذا رسالة لكل الطائفيين والمصلحيين المتسلقين على عظام الآخرين.
3- الكلمة ليست مجرد كلمة، فقد تساهم في منع قتل نبي كما فعل هذا الرجل، وكما فعلت آسية بنت مزاحم حين قالت ﴿لا تَقْتُلُوهُ﴾ ، وكما فعل أخو يوسف حين قال لإخوته: (لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ) . وربما تدعو لقتل نبي كما قال بعض إخوة يوسف لبعض: ﴿اقْتُلُواْ يُوسُفَ﴾ .
4- كتم الإيمان وممارسة التقية ليس عيبا أو عارا يشنع به على الإنسان، أو تهمة تلصق به، وإنما العار والعيب والشنار على كل فرعون وكل ظروف فرعونية تجعل الإنسان مضطرا إلى ممارسة ذلك.
يقول المفسر والفقيه المالكي التونسي المعاصر (الطاهر بن عاشور) المتوفى سنة 1972 م في تفسيره (التحرير والتنوير) معلقا على قوله تعالى (يَكْتُمُ إِيمانَهُ) ما نصه:
و كان كتمه الإيمان متجددا مستمرا تقية من فرعون و قومه إذ علم أن إظهاره الإيمان يضره و لا ينفع غيره كما كان (سقراط) يكتم إيمانه باللّه في بلاد اليونان خشية أن يقتلوه انتصارا لآلهتهم . انتهى كلامه
أقول: وكما اضطر جاليليو لأن يكتم إيمانه بدوران الأرض أمام محاكم التفتيش حفاظا على نفسه. فهل يلام سقراط أو جاليليو؟! أم أن اللوم يجب أن يقع على كل من يحجر الرأي ويصادر الفكر؟ ما لكم كيف تحكمون؟!.
5- ﴿وَقالَ رَجُلٌ﴾ لا يسمّيه حيث الأصل في تبنّي الشخصيات هو الرجولات بسماتها وبصماتها دون الأسماء، فسواء أكان الرجل نبيا أم سواه، قبطيا أم سواه، فالمحور الرئيسي هنا رجولته بإيمانه .
6- الطغاة على مدى التاريخ لا يتحملون وجود رأي مخالف لما يعتقدون رغم أنه مجرد رأي. ومن هنا كان استنكار هذا الرجل المؤمن على قومه في دفاعه الجميل ومرافعته المسكوكة بدقة عجيبة. بدأ بالاستفهام الإنكاري ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، كأنه يقول لهم: موسى كان يعبر عن عقيدته فقط ولم يجبركم على اعتناقها، فهل يبرر ذلك قتله؟ كما إنه - أي موسى - قد أيد دعواه بالأدلة القاطعة كما تعلمون ﴿وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
7- قوله ﴿وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يعبر عن دقة المرافعة، حيث بين لهم بقوله (مِنْ رَبِّكُمْ) وليس (من ربه) أن مصدر البينات هو من تؤمنون به ربا، وفي هذا ما يدعوكم لتصديقه لا إلى تكذيبه وقتله. كما بين لهم بذلك أيضا أن ربه وربهم واحد.
8- الانطلاق في دفاعه عن موسى من خلال النقاش الهادئ الذي يثير الأسئلة المشككة التي تجعل الآخر يعيد النظر في مسلماته الفكرية. ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
9- والانطلاق أيضا من الحرص على مصلحة الآخر ومراعاتها، وهذا ما حاول إيصاله لهم من خلال قوله لهم ﴿وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾. فهو يخاف عليهم أن يصيبهم بعض ما يعدهم موسى عليه السلام.
10- قدم ﴿وَإِنْ يَكُ كاذِباً﴾ على قوله ﴿وَإِنْ يَكُ صادِقاً﴾ لأن ذلك منتهى اللطف في الجدال والمحاجة بأن تقدم أسوأ الاحتمالات بل أن تفرض المحال الذي يمكن أن يتخيله الخصم ثم ترد ذلك برفق ولين.
11- المسلمات العقلية أساس النقاش، فقد بين لهم أن الأمر لا يخلو من احتمالين: إما أن يكون كاذبا في ادعائه الإله الواحد والبعث يوم القيامة، فكذبه سيكون عليه لا عليكم إذ إن الإله لن يتركه، وإما أن يكون صادقا وبالتالي ﴿ يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾.
12- لم يقل (كل الذي يعدكم) بل قال ( بعض ) تلطيفا في العبارة وزيادة في كتم إيمانه.
13- يذكرنا هذا النقاش بما قاله إمامنا الصادق عليه السلام للزنديق عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي ينكر البعث: إن يكن الأمر كما تقول - وليس كما تقول - نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول - وهو كما نقول - نجونا وهلكت.
لقد طبق الإمام الصادق عليه السلام نفس المنهج القرآني تماما.
14- أوضح لهم بطريقة لطيفة أن منهج الله الثابت في حق موسى عليه السلام وحقهم واحد وهو أنه تعالى ﴿لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾. وبالتالي عليهم أن يعيدوا تقييم الموقف وتقييم أنفسهم حتى لا يكونوا من المشمولين بذلك حين يتجاوزون الحدود أو يستمرئون الكذب والتضليل.