أخاف عليكم
﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)﴾ سورة غافر.
بعد أن تدخل فرعون ليقطع حديث هذا الرجل المؤمن الذي ينشد إصلاح مجتمعه، واصل مؤمن آل فرعون خطابه متوجها إلى قومه غير ملتفت لما قاله فرعون وكأنه لم يقل شيئا. وفي هذا درس عميق للمصلحين أن ينتبهوا لما يريده بهم أعداء الإصلاح من الدخول في معارك جانبية وهامشية فينشغلوا عن أهدافهم ويتفرغ أعداؤهم لما يريدون.
وقفات:
1- قوله ﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ﴾: الإيمان الحقيقي يدفع للعمل الصالح ومنه القول الصالح والموقف الصالح.
2- قوله ﴿يا قَوْمِ﴾: الأسلوب العاطفي في بداية الخطاب وبداية الحوار ضروري جدا في إنجاح الخطاب أو الحوار. ونلاحظ هنا في البداية التركيز على ما هو مشترك بينه وبينهم فهو ينسبهم إلى نفسه ﴿يا قَوْمِ﴾، كما فعل ذلك نبي الله يوسف عليه السلام حين ركز على المشترك مع صاحبيه قائلا ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾بداية تخاطب القلب أولا.
3- قوله ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ﴾: المصلح يجب أن يكون حريصا على الآخرين ومستقبلهم الدنيوي فضلا عن الأخروي. وقد وصف الله تعالى رسوله الكريم بقوله: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾ . كما أن على المصلح تنبيه مجتمعه إلى الأخطار المحدقة بهم، وعدم المجاملة في ذلك.
4- قوله ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ تفصيل بعد إجمال. حيث يذكرهم بمصائر الأحزاب التي يعرفونها. والأحزاب هم الذين تحزبوا وتعصبوا واجتمعوا على الكفر بأنبيائهم وعدم تصديقهم فكان مصيرهم الهلاك والخسران، والعاقل من اتعظ بغيره. وتكشف هذه الآية عن المعرفة التاريخية التي كانت لدى المصريين عن الأقوام الآخرين. كما تبين ضرورة وأهمية القراءة الواعية للتاريخ حتى لا يكرر التاريخ نفسه علينا.
5- قوله ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ﴾: قاعدة هامة وأساس متين لفهم مسألة العدل الإلهي، فليس في عالم التشريع أو عالم التكوين ظلم أبدا، إذ الله لا يريد أن يقع ظلم من العباد كالشرك وهو ظلم عظيم أو غيره، أو على العباد من أي أحد، حتى من أنفسهم. ولكن المشكلة أن الناس لا يكفون عن ظلم أنفسهم وغيرهم. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ .
فالآية تشير إلى أن ما أصاب الأحزاب من عذاب كان نتيجة سوء اختيارهم وأعمالهم.
6- قوله ﴿وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ﴾: إظهار لحرصه على مستقبلهم الأخروي، بعد أن أظهر حرصه على مستقبلهم الدنيوي. وقد قدم الدنيوي على الأخروي لأن الناس عموما يفكرون في العاجل قبل الآجل.
(يوم التناد) هو يوم القيامة حيث ينادي الظالمون بعضهم بعضا، المستضعفون ينادون المستكبرين، وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة، وينادي أصحب الجنة أصحاب النار، وينادي الملائكة الظالمين بالويل والثبور.
6- قوله ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ﴾: مزيد من التذكير باليوم العسير المختلف تماما عن هذا اليوم، حيث حالة الفزع الشديد والفرار لغير هدف ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ﴾، كما قال في سورة القيامة ﴿يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ . فالإنسان يحتاج دائما إلى التذكير باليوم الآخر وأهواله، خصوصا وأن انبعاث فعل الإنسان غالبا ما يكون نتيجة النذُر لا البشارات.
7- ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ﴾: كأنه يقول لهم: إن الهداية لا تأتي من فرعون الذي يقول لكم ﴿وَما أَهْدِيكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ﴾.بل تأتي من الله تعالى، يمنحها مَن توسل أسبابها وسعى إليها، أما الذي لا يبحث عن الهداية أو يبحث عنها عند غير الله فلن يصل إليها أبدا.