وقفة بطولية
﴿وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) ﴾سورة غافر
الآن وقد تمادى فرعون في غيه وضلاله وإضلاله وتمويهه وكذبه على الناس كان لا بد من وقفة صريحة ضده، وقفة لا يستطيع أن يقوم بها إلا أولئك المؤمنون حقا برسالتهم الواثقون من ربهم وأنفسهم، كهذا المؤمن.لم يلتفت مؤمن آل فرعون إلى خطاب فرعون التضليلي القاضي ببناء الصرح، ولم يشغل نفسه بالرد عليه لأنه لا يريد أن ينجر إلى معركة جانبية هامشية. بل وجه خطابه إلى قومه مباشرة مواصلا الحفر في أحجار عقولهم.
وقفات:
1- نشهد في هذه الآيات وما بعدها خطابا يخلو من التقية التي كانت في بداية الحوار، خطابا في غاية الوضوح والتحدي.
2- كما ذكرنا فإن الجانب العاطفي في الخطاب مهم جدا، لذا يبدأ مؤمن آل فرعون خطابه بقوله ﴿يا قَوْمِ﴾، وهو يشدد عليها دائما بتكرارها ليبين لهم أنه واحد منهم يسوؤه ما يسوؤهم وأنه حريص عليهم أشد الحرص. ألا ترى إلى ابراهيم عليه السلام يكرر ﴿يا أبَتِ﴾.
3- ينبغي أن تطرح القيادات المؤمنة نفسها بديلا عن قيادات الضلال، وأن لا تترك الساحة فارغة لهم. هذا ما فعله مؤمن آل فرعون وطلبه من قومه في عبارة لا تحتمل التأويل ﴿اتَّبِعُونِ﴾، ثم بين لهم سبب طلبه لهم اتباعه، فهو لا يهدف إلى مصالح شخصية أو أهداف دنيوية كما هو حال فرعون، بل هدفه من ذلك هدايتهم إلى طريق الخير وسبيل الرشاد.
وفي هذا درس أيضا للجماعات والأحزاب والأفراد الذين يطرحون أنفسهم كقيادات أن ينتبهوا إلى أهدافهم ويمحصوها تمحيصا دقيقا. فكم من شخص أو حزب ادعى أن هدفه المصلحة العامة ثم عند التمحيص تبين أن هدفه السلطة وملحقاتها.
4- لغة التحدي واضحة في قوله ﴿أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ لأنه يأتي ردا مباشرا على قول فرعون ﴿وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾. إذن ليس كل من يدعي أنه يهدي إلى سبيل الرشاد صادقا، فهذا فرعون يدعي ذلك. لذا على الشعوب أن تكون على درجة عالية من الوعي تستطيع من خلالها التمييز بين الدعوى الصادقة والدعوى الكاذبة.
5- من علامات الدعوة الصادقة موقفها ورؤيتها الكونية التي تأخذ بعين الاعتبار المصير النهائي للإنسان. ولذا أوضح لهم في الآية التالية الموقف الصحيح من الحياة، فالحياة الدنيا متاع زائل ومتعة فانية، وهي ممر وليست مقرا، مدتها محدودة جدا، بينما الآخرة هي المقر ولا نهاية لها. فهل من العقل أن يشتري الإنسان الحياة الدنيا بالآخرة؟
6- لقد أدرك أن سبب ارتباطهم بفرعون وتمسكهم به هو سبب دنيوي بحت، حيث تقتضي مصالحهم المادية الآنية العاجلة استمرار حكم فرعون. كيف لا وهم جوقة النظام المتنفذون وأصحاب المناصب أي الملأ بالتعبير القرآني. ولذا أراد مؤمن آل فرعون أن يجيب على سؤال قد يعتمل في أذهانهم، وهو: لماذا نترك كل هذا النعيم الذي نتقلب فيه؟ ومن سيعوضنا عنه؟
واستمر مؤمن آل فرعون يشرح لهم المصير المحتوم الذي سيواجهونه، ويبين لهم الأسس التي سيتم عليها محاسبتهم يوم القيامة، فالمسألة هناك ليست بالمناصب والوجاهات، بل هي عمل باعثه الإيمان. ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ﴾
في الآخرة يكون الجزاء من جنس العمل، بل هو العمل نفسه يتجلى في صورة أخرى، فالغِيبة - مثلا - تتجلى في صورة بشعة، أعني أكل الإنسان لحم أخيه ميتا. وأكل مال اليتيم بالباطل يتجلى نارا في بطون الآكلين. وجزاء سيئة سيئة مثلها، ولكن من لطف الله وكرمه أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، بل أعظم من ذلك حيث ﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ﴾.
لقد أراد أن يقول لهم: أنتم بين خيارين، ومصيركم محكوم بالخيار الذي تتخذونه. وعليكم أن تقيسوا نعيمكم الزائل المحدود بنعيم الآخرة الباقي غير المنقطع والذي لا حدود له.
7- لعل تقديم مؤمن آل فرعون ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً﴾ على ﴿وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً﴾ لأنهم كانوا سادرين في الغي والضلال، فيريد تنبيهم إلى ما سيؤول إليه مصيرهم إن استمروا على هذا الحال. كما إن الناس بطبيعتهم يحركهم أولا الوعيد والإنذار أكثر من الوعد والتبشير.
8- قوله ﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى﴾ يشير إلى مساواة الرجل والمرأة في ميزان الله تعالى، فليس هناك دخل للذكورة والأنوثة في قبول العمل. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ .
9- قوله ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ تحديد لشرط قبول الأعمال أي الإيمان ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾