الحوار حتى النهاية
﴿وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43)﴾ سورة غافر.
وقفات:
1- استمرار مؤمن آل فرعون في الحوار مع قومه حتى أبعد مدى مع الاحتفاظ التام بتوازنه طيلة الحوار، فلم تصدر منه كلمة نابية، بل هو حوار يخاطب الآخر قلبا وعقلا، ويعتمد على الحجج الدامغة والبراهين الواضحة. وهكذا يجب أن يكون من يريد أن يدعو إلى الله، ومن يتصدى للحوار مع الآخرين.
2- تنوع أساليب المحاور بين طرح الأسئلة المثيرة للعقل والتي تدفع إلى التشكيك في مسلمات الإنسان ويقينياته الباطلة وبين بيان الحقائق وتبصير الغافلين عنها في أسلوب قريب من القلب محبب إلى النفس يفيض حنانا وحرصا على الآخر. وهذا ما يتجلى في مجمل الخطاب وفي عباراته المؤثرة كتكراره قول ﴿يا قَوْمِ﴾ وقوله ﴿إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ﴾
3- في هذه الآيات يختم مؤمن آل فرعون حواره باستفهام تعجبي ﴿ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ﴾، وكان بدأ حواره باستفهام إنكاري ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ وفي الاستفهام تحريك للعقل وإثارة لدفائنه ودعوة إلى المراجعة.
4- قوله ﴿ما لِي أَدْعُوكُمْ﴾ بدأ بنفسه كأنه يتهمها رغم معرفته بصواب موقفه، ثم عرج عليهم بقوله ﴿وَتَدْعُونَنِي﴾ ولم يقل: وما لكم. وفي هذا أدب حواري لا يستطيعه إلا من ربى نفسه وروضها، وهو يكشف عن عظمة هذا المؤمن.
5- المؤمن متهم لنفسه أولا قبل غيرها. ألا ترى ما قاله نبي الله سليمان عليه السلام ﴿مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾ . وفي هذا تأديب لنا بأن نفكر أولا في مواقفنا وصحتها قبل أن نبحث عن مواقف الآخرين وصوابيتها.
6- الإنسان قد لا يسلم بأبسط البديهيات بسبب تماديه في الغي والضلال واستكباره عن الحق والطبع على قلبه ﴿كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴾. فمن أوضح الواضحات الفرق بين دعوته لهم للنجاة ودعوتهم له للنار، ولكنه احتاج أن يذكرهم بذلك.
7- كما احتاج أن يوضح لهم أن دعوتهم له للكفر بالله والشرك به هي الموصلة إلى النار، بينما دعوته إلى العزيز الغفار موصلة حقا إلى النجاة. فالله هو العزيز الذي لا يُغلب أبدا، فإذا أرادوا عزا حقيقيا لا مزيفا فهو عند الله لا عند فرعون ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ ، والله هو الغفار ﴿لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ .
ولعله بدأ بالعزيز لأنهم كانوا يشعرون أنهم في عز لا يُغلب في ظل فرعون، كما قال السحرة من قبل ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ ، فأراد أن يبين لهم زيف وباطل ذلك العز ويدعوهم إلى العز الحق، وبعد ذلك يرشدهم إلى باب التوبة والمغفرة ويفتح لهم أفقا لا متناهيا من خلال اسم من أسماء الله الحسنى، وهو ( الغفار ). وما أعظمه من اسم وما أحوجنا له.
8- الإنسان مدعو إلى التخلق بأخلاق الله تعالى، فالمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ وفي نفس الوقت أن يكون (غفارا) يتجاوز عن أخطاء الآخرين، ويصفح ويسامح.
بعكس ذلك يكون الطغاة حيث يدفعهم عزهم الزائف، وعزتهم بالإثم إلى الاستكبار والاستبداد وعدم التسامح حتى مع الأبرياء والمظلومين. ألم نشاهد البعض وقد رفع شعار لا للعفو و ( لا عفا الله عما سلف ) في ارتكاسة أخلاقية تتجاوز حتى قول الله تعالى ﴿عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف﴾؟!
9- الاعتقاد ينبغي أن يكون مبنيا على العلم لا على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا. هذا ما نستظهره من قوله ﴿وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾، فهو يقول لهم: ليس لدي علم بأن لله شريكا. وفي هذا إثارة لهم لكي يرجعوا إلى أنفسهم فيسألوها:هل لهم علم بأن لله شريكا؟ ولعله لهذا لم يقل: ما ليس لكم به علم. وهذا أدب حواري آخر.
10- وضعهم بعد ذلك أمام الحقيقة التي يجب أن يكونوا على وعي بها، وهي أن ما يدعونه إليه هو أوهام وأباطيل ﴿لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ﴾، فلا يملك شيئا منهما، ولا يستجيب لداعيه فيهما، بينما لله تعالى دعوة الحق. ثم بين لهم أن المرجع إلى الله تعالى، لا إلى ما يدعونه إليه، وحينذاك سيكون نصيب المسرفين ﴿الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ﴾ ، نصيبهم النار.
11- لم يقل (وأنكم أصحاب النار) بل ركز على الصفة التي توصل صاحبها إلى النار، وهي الإسراف وتجاوز الحدود، فمن انطبقت عليه هذه الصفة فهو من أصحاب النار في أي زمن كان. وفي هذا تحذير لهم من هذه الصفة ودعوة للتخلص منها وإنذار بعواقبها الوخيمة.