علي أيقونة الحب
وعلي إشراقة الحب، لو شِيبَ بِسُودِ الأحقاد كادت تنيرُ..
هذا البيت من رائعة (على ضفاف الغدير) للشاعر الكبير الراحل السيد مصطفى جمال الدين، وهي قصيدة نالت شهرة تستحقها لما فيها من المعاني الرفيعة والصور الفنية البديعة، المسكوبة في أكواب اللغة الصافية صفاء الفضة المقدرة تقديرا.
ولست هنا بصدد الحديث عن القصيدة أو صاحبها، ولكني سأتحدث عمن قيلت القصيدة في حقه، أعني الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعن كونه أيقونة الحب أو إشراقته بحسب تعبير الشاعر.
فقد روى السنة والشيعة في مصادرهم الحديثية الكثير من الأحاديث التي تقيم علاقة بين الإمام علي وبين الحب. من ذلك قول النبي لعلي بن أبي طالب : " لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق". حيث روى هذا الحديث مسلم في صحيحه والإمام أحمد بن حنبل في مسنده وغيرهما. هذا عن علاقة الآخرين بالإمام عليه السلام، فإما حب يكشف عن إيمان، أو بغض – والعياذ بالله – يكشف عن نفاق.
أما عن علاقة حبه هو مع الله ورسوله، فيرويها حديث الراية المذكور في كتب الفريقين، والذي يقول فيه النبي : "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، وكان ذلك في غزوة خيبر كما ذكره أهل السير والمؤرخون.
حياة علي يمكن أن نلخصها بأنها كانت حياة في الحب، حب الله وحب رسوله، وحب القيم والمبادئ، حب الحق والخير والجمال، حب الحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان، بل المخلوقات جميعا بدءا بأضعفها. لقد بلغ به الحب مبلغا عظيما بحيث لا يمكن أن يقبل أن يُعطى الدنيا كلها مقابل التخلي عنه، حتى لو كان التخلي في حده الأدنى الذي لا يشعر به أحد.
" وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا وَ اسْتُرِقَّ قُطَّانُهَا مُذْعِنَةً بِأَمْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا شَعِيرَةً فَأَلُوكَهَا مَا قَبِلْتُ وَ لَا أَرَدْتُ".
وإذا كان يوسف (عليه السلام) قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، فإن الإمام علي يفضل المبيت على الأشواك الحادة جدا والجر في الأغلال والأصفاد على أن يلاقي المحبوب وهو مرتكب لمظلمة أو مغتصب لحق.
"وَاللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَ غَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَام".
ولأنه بلغ أسمى مراتب الحب، فحديثه عن المحبين له طعم فريد، لأنه يتحدث عن واقع يعيشه، لا عن نظرية يدعو لها. لقد تحدث الإمام عليه السلام عن (صفات من يحبه الله تعالى)، فذكر أربعين وصفا كما قال الشيخ ميثم البحراني في شرحه لنهج البلاغة، وذلك في خطبته التي كان مما قال فيها:
"عبَادَ اللَّه إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّه إِلَيْه عَبْداً أَعَانَه اللَّه عَلَى نَفْسِه فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ ، وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ، فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِه . وأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِه النَّازِلِ بِه، فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِه الْبَعِيدَ وهَوَّنَ الشَّدِيدَ . نَظَرَ فَأَبْصَرَ وذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ. وارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَه مَوَارِدُه، فَشَرِبَ نَهَلًا وسَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً . قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِه فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى، ومُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى. وصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى، ومَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى....."
إن أول خطوة في طريق المحبوبين هي أن يكون الإنسان عبدا لله، فتكون نفسه تحت سيطرته، لا أن يكون هو تحت سيطرتها، وهذا ما عبر عنه الإمام بقوله: عبدا أعانه الله على نفسه.
أخيرا وكما بدأنا بشعر السيد جمال الدين نختم مخاطبين إمام الحب قائلين:
سيدي أيها الضمير المصفى..والصراط الذي عليه نسيرُ
لكم مهوى قلوبنا، وعلى زادك نربي عقولنا ونميرُ
وإذا هزت المخاوف روحا.. وارتمى خافق بها مذعورُ
قربتنا إلى جراحك نار.. وهدانا إلى ثباتك نورُ
نحن عشاقك الملحون في العشق.. وإن هام في هواك الكثيرُ