أخطاء الأطباء و أخطاء الساسة
مسلسل الأخطاء الطبية هو أحد أطول المسلسلات التي تكرر نفس السيناريو دون كلل أو ملل، ودون خوف من الجمهور المسكين أن يغادر قاعة العرض، فالجمهور تعود عليها حتى أصبح يراها جميعا قضاء لا يرد وقدرا محتوما لا محيص عنه.
فنسيان مقص أو إسفنج أو قطعة شاش داخل بطن المريض خبر عادي لا يتوقف عنده كثيرا، وخلع السن السليمة أو استئصال الكلية السليمة بدلا من المريضة أمر شائع لا ينبغي أن يثير غضبنا أو اشمئزازنا، أما التشخيص الخاطئ ووصف العقاقير المضرة غير المناسبة فيأتي في بداية كل حلقة من هذا المسلسل اللانهائي. وقد يتسبب الخطأ الطبي في مضاعفات تكلف المريض الكثير من صحته ووقته وماله كحالات الإعاقة الجزئية أو الكلية أو التشويه، و ربما تكلفه حياته كلها.
ومما يزيد الأمر سوءا ضعف الوعي الحقوقي عندنا، وعدم سيادة ثقافة المطالبة بالمساءلة ودفع التعويضات على عكس ما هو سائد في المجتمعات الغربية، يذكر القاضي في المحكمة الكبرى بالرياض الشيخ الدكتور ابراهيم الخضيري إن كثيرا من أولياء أمور المرضى يتنازلون بحجة قضاء الله وقدره... فكثيرا ما نسمع أن طبيب الأسنان أخطأ بخلع سن سليمة بدل المصابة، ولكن لم يتخذ أولياء الأمور أي موقف تجاهه، رغم أنه يحق لهم رفع قضية، فالسن بالسن، وعليه إن ثبت خطأ الطبيب فسنه تخلع كما قام بخلع سن المريض السليمة خطأ. انتهى كلام الشيخ الخضيري.
لا أدري لو تم تطبيق ما يقوله الشيخ هل سنرى أطباء أسنان بلا أسنان، وجراحي مسالك بلا كلية، ولكن ماذا عن طبيب الأنف والأذن والحنجرة، بل ماذا عن طبيب النساء؟ مجرد تساؤلات؟!
يقول المرجع الديني الراحل الشيخ محمد الفاضل اللنكراني ( قدس سره ) في كتابه القيم ( الأحكام الطبية ) الذي خصص أحد فصوله لموضوع الضمان في الطب:
يجب على الأطباء والكوادر الطبية التي تقع على عاتقها مسؤولية تأمين سلامة المرضى أن يراعوا الدقة الكاملة أثناء قيامهم بواجباتهم وأعمالهم في الفحص، وصف الدواء، العلاج، و... خصوصا في الموارد التي تتطلب إجراء عمليات جراحية.
ويضيف: فإذا أقدموا على ذلك بدون الالتزام بمعايير الاطلاع اللازم والتخصص الملائم، أو تساهلوا في عملهم، فأدى ذلك إلى إلحاق الضرر بالمريض، فإنهم بالإضافة إلى ارتكابهم المعصية ومسؤوليتهم عن ذلك أمام الله، يجب عليهم الالتزام بمسؤولياتهم تجاه المرضى الذين تضرروا من ذلك، ودفع التعويض المالي لهم والذي يعبر عنه بالضمان.
هذا عن أخطاء الأطباء، أما عن أخطاء الساسة فهي بالتأكيد أفظع وأشنع لأكثر من سبب، فقرار سياسي خاطئ قد يؤدي إلى حرب كارثية كالحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين أزهقتا ملايين الأرواح، وتشخيص سياسي خاطئ قد يؤدي إلى أزمة مزمنة في دولة ما أو بين دولتين، وعلاج سياسي خاطئ قد يفاقم الأمور سوءا داخل الدولة وخارجها. ألم يكن وعد بلفور قرارا سياسيا خاطئا، ألم تعالج أوروبا مشكلة اليهود بترحيلها إلى مكان آخر، فما الذي حدث منذ ذلك الوعد المشؤوم حتى اليوم، ومن يتحمل وزره؟! ألم تكن الحرب العراقية الإيرانية وحرب الكويت اللتان لا تزال آثارهما حية نتاج تشخيص غير مدروس.
سبب آخر يجعل أخطاء الساسة أفظع هو أن الخطأ الطبي من السهولة أن يتعرض صاحبه للملاحقة القانونية والقضائية، أما الخطأ السياسي فغالبا ما يفلت صاحبه من الملاحقة، ألم يفلت بوش الابن حتى من حذاء منتظر الزيدي الذي فاقت شهرته حذاء الطنبوري ونبوية شبشب؟!
سبب ثالث يرجح الكفة السالبة للخطأ السياسي هو أن آثار الخطأ الطبي تبقى في الغالب محدودة ومحصورة، أما السياسي فآثاره تتوارثها الأجيال كأنها ( شراب فيمتو ) كما تقول دعايته. فنظرة واحدة على مشاكلنا السياسية في عالمنا الإسلامي تعطيك فكرة عن الإرث الضخم الذي ورثناه عن أسلافنا وغير أسلافنا.
سبب رابع وخطير وهو أن الخطأ السياسي يتوسل في تبريره بالديني، مما يجعل الدين أداة في يد السياسي يكيفها حسبما يريد.
هناك أسباب أخرى بالفعل لا نريد أن نخوض فيها الآن، إذ أفضل أن أختم مقالي بحديث عن فعل سياسي يقف في الجانب الآخر، جانب الصح، في تجربة تستحق أن نقرأها بعناية شديدة؛ وأعني بذلك الفعل السياسي الذي أحدث تغييرا دراماتيكيا في واحدتين من أعقد القضايا في تركيا، قضية الأرمن وقضية الأكراد.
فبرغم أنهما قضيتان موروثتان مما يعقد حلهما، إلا أن الحكومة التركية الحالية بقيادة رئيس وزرائها رجب طيب أردوغان استطاع أن يشخص المسألتين تشخيصا مختلفا، وبالتالي نجح في اجتراح الحلول المناسبة التي عجز عنها غيره، حتى وصل الأمر إلى تطبيع العلاقات مع الأرمن وإحالة الخلاف بينهما حول المجازر - التي يؤكد الأرمن أنهم تعرضوا لها وتنفيها تركيا – إلى طاولة حوار مباشر حول البعد التاريخي من أجل ترميم الثقة المتبادلة بين الدولتين، واللجوء إلى تحليل علمي حيادي ونزيه للوثائق التاريخية بغية توضيح الخلافات الحالية ووضع توصيات للحل.
وفي البعد الكردي تمكن أردوغان من حلحلة المسألة الكردية حين تناولها بمنظور يختلف عمن سبقه ممن ركزوا على المعالجة الأمنية للقضية الكردية السياسية، حيث جاء بمشروع أسماه ( الانفتاح الديموقراطي ) بدلا من الحرب المستمرة منذ 1984 م والتي حصدت 45ألف قتيل تقريبا.
ترى هل سيستفيد العرب أولا والعالم الإسلامي ثانيا من الطريقة الرجبية الطيبة أم إنهم سيستمرون يعالجون مشاكلهم الداخلية والخارجية من خلال التشخيصات الخاطئة؟!