المدخل للقضاء على الطائفية
الطائفية كظاهرة اجتماعية ليست مختصة بدين دون آخر، أو مجتمع دون غيره، أو عصر دون عصر، ذلك أن الطائفية سلوك وممارسة خارجية مبني على قناعات فكرية وثقافية تسلب الآخر كل حسن، وتنسب إلى معتنقيها كل جميل، مما يعني احتكار الحقيقة المطلقة.
ونحن نمر في هذه الحقبة بمرحلة التغذية الطائفية سواء بالخطابات الداخلية البينية التي تحرض على الكراهية ونبذ الآخر وتصل في أحط دركاتها إلى إباحة دم الآخر وماله وعرضه، أو بالخطابات الخارجية التي تريد أن تستثمر الحالة المتردية للمجتمعات الإسلامية وقابليتها للتفاعل العاطفي مع الخطاب الطائفي في تمرير مشاريعها الاستعمارية الجديدة.
إن ما نشهده ، وللأسف، من تصعيد طائفي على امتداد الرقعة الإسلامية، وما يرشح من خطط أمريكية وصهيونية لتأجيج هذه الحالة، من خلال إيجاد محاور جديدة في المنطقة تكون إسرائيل شريكا فيها بدل أن كانت منذ إنشائها في محور مضاد للمحور العربي الإسلامي، فإذا بنا اليوم نسمع أو نقرأ عن خطط سياسة إعادة التوجيه، ومصطلح السنة المعتدلين، والصفويين، وإيقاف المد الشيعي، وما إلى ذلك…، وبعد أن وصلت النوبة إلى مؤتمرات التقريب التي انقلب خطاب بعض دعاتها فجأة إلى خطاب لا يمت إلى التقريب بصلة، كل هذا يدعونا إلى التفكير الجدي في ممارسة دور ما في القضاء على الطائفية البغيضة حتى لا نصبح جميعا أكلة للغاصب ونهزة للطامع.
وأتساءل هنا عن المدخل الصحيح لعلاج هذه الظاهرة. لقد جربنا على مدى الأعوام المتطاولة الماضية مدخلين رئيسيين: كان الأول هو المدخل الجدلي، وكان لهذا المدخل إيجابياته وسلبياته، فعلى الصعيد الإيجابي ساعد على خلق فهم أفضل من خلال بعض المحاورات والمناظرات التي تهيأت لها أجواء إيجابية تمثلت أساسا في الشخصيات المتحاورة التي كانت تهدف بصدق إلى التعرف على الآخر أو تعريف الآخر بذاتها، أي الوصول إلى فهم مشترك. أما على الصعيد السلبي فقد تحولت كثير من تلك الحوارات إلى حوار طرشان، ومماحكات لا هدف من ورائها إلا اغتيال الخصم.
والمدخل الثاني الذي جربناه هو المدخل الثقافي، وأعني به هنا محاولات التقريب بين المذاهب الإسلامية أو بين أتباعها بشكل أدق، من خلال التركيز على المشتركات والتغاضي وإعذار الآخر في مسائل الخلاف.
وقد لعب هذا المدخل ولا يزال دورا إيجابيا في الاعتراف بالآخر، والإيمان بالتعددية الدينية المعرفية كبديل عن التناحر والتنابز.
ومع تقديرنا لكل جهود المخلصين في هذين السبيلين، إلا أننا أن تلك الجهود لم تصل بعد إلى مبتغاها، ونرى أن السبب الرئيس وراء ذلك هو غياب الإرادة السياسية التي تدفع باتجاه نبذ الطائفية.
ولنأخذ مثالا قريبا، فقد عقد في العاصمة الأردنية عمان في الفترة ما بين 27-29 جمادى الأولى 1426 للهجرة، وبمشاركة أكثر من مئة وسبعين عالماً من مختلف بلاد المسلمين ، ومن أتباع المذاهب الإسلامية الثمانية حيث أقر ممثلو أتباع هذه المذاهب بناءً على فتاوى جميع المراجع الدينية الإسلامية وأجمعوا على نقاط كان أهمها:
إن كل من يتبع أحد المذاهب الأربعة من أهل السنة والجماعة (الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي) والمذهبين الشيعيين (الجعفري والزيدي) والمذهب الأباضي والمذهب الظاهري فهو مسلم ولا يجوز تكفيره ويحرم دمه وعرضه وماله ولا يجوز أيضاً تكفير أصحاب العقيدة الأشعرية ومن يمارس التصوف الحقيقي وكذلك لا يجوز تكفير أصحاب الفكر السلفي الصحيح كما لا يجوز تكفير أي فئة أخرى من المسلمين تؤمن بالله سبحانه وتعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وأركان الإيمان وتحترم أركان الإسلام ولا تنكر معلوماً من الدين بالضرورة.
• وقد تم تبني ذلك من قبل مؤتمر القمة الإسلامية الذي انعقد في مكة ما بين 5-6 ذي القعدة 1426 هـ، حيث جاء في أحد بياناتها:
التأكيد على ضرورة تعميق الحوار بين المذاهب الإسلامية، وعلى صحة إسلام أتباعها، وعدم جواز تكفيرهم ، وحرمة دمائهم وأعراضهم وأموالهم ، ماداموا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم وببقية أركان الإيمان , ويحترمون أركان الإسلام ولا ينكرون معلوماً من الدين بالضرورة .
ورغم هذه البيانات وما سبقها لم يتغير الكثير على أرض الواقع، فقد استمرت فتاوى التكفير ومعها الممارسات الطائفية القبيحة، بل شهد الخطاب السياسي الطائفي تصاعدا في وتيرته. والسبب في كل ذلك كما نرى هو كما قلنا غياب الإرادة السياسية التي تستطيع تحويل ما على الورق إلى الأرض.
إن التجربة التاريخية تثبت أن الإرادة السياسية كانت وراء إذابة الجليد ووأد التناحر بين أتباع المذاهب السنية الرئيسية الأربعة، بل كانت قبل ذلك سببا في حصر المذاهب في هذه الأربعة. إن كتب التاريخ مليئة بالحوادث المريرة التي كانت تقع بين أتباع هذه المذاهب، ولكنها ولله الحمد تعيش الآن مع بعضها في حالة وئام وسلام.
وهكذا يمكننا استنساخ هذه التجربة إذا توفرت الإرادة السياسية، ولن نحتاج بعدها إلى سنوات طويلة من الحوارات والمناظرات والمؤتمرات.
إن المدخل السياسي في اعتقادي هو المدخل الرئيس الذي يجب أن تصب عليه الجهود.. أما كيف فتلك مسألة أخرى ربما نوفق في وقت آخر للحديث حولها.
أخيرا نختتم بهذا الحديث عن الإمام علي بن الحسين، حين سئل عن العصبية،
فقال عليه السلام : العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم .