قواعد سلوكية في العلاقات الاجتماعية
جاء في وصية للإمام علي بن الحسين عليه السلام لمحمد بن مسلم بن شهاب الزهري :” يا زهري من لم يكن عقله من أكمل ما فيه كان هلاكه من أيسر ما فيه ،يا زهري أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربك بمنزلة أخيك ، فأي هؤلاء تحب أن تظلم ، وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه ، وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره ؟
وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلا على أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك فقل : قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني ، وإن كان أصغر منك فقل : قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني ، وإن كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي ومن شك في أمره ، فما لي أدع يقيني لشكي .
وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل : هذا فضل أخذوا به ، وإن رأيت منهم جفاء وانقباضا فقل : هذا لذنب أحدثته .
فإنك إن فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك ، وكثر أصدقاؤك ، وقل أعداؤك ، وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم .
واعلم أن أكرم الناس على الناس من كان خيره فايضا عليهم ، وكان عنهم مستغنيا متعففا ، وأكرم الناس بعده عليهم من كان مستعففا وإن كان إليهم محتاجا ، فإنما أهل الدنيا يتعقبون الأموال ، فمن لم يزدحمهم فيما يتبقونه كرم عليهم ، ومن لم يزاحمهم فيها ومكنهم من بعضها كان أعز وأكرم ” .
التراث العظيم الذي خلفه أهل البيت الأطهار عليهم السلام لم يلق حتى الساعة ما يستحقه من اهتمام ، ولم تستثمره الأمة حق الاستثمار . وما نعانيه اليوم من ضعف وهوان وتشرذم وتبعية مستشرية في شتى مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ناتج عن ابتعادنا عن هذا التراث الثر الذي يمثل مع القرآن الثقلين الذين أمرنا النبي ( ص ) بالتمسك بهما للنجاة من الضلال ( ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي )
وعلى سبيل المثال تعاني علاقاتنا الاجتماعية الكثير من الأزمات والتوترات ، وهي تكشف عن خلل عميق في مكونات الإطار المرجعي الذي يحكم هذه العلاقة ، فغالبا ما تكون هذه العلاقة محكومة بالعواطف والأهواء والعصبيات التي تؤدي في معظم الأحيان إلى التطرف في الحب أو التطرف في البغض .
ومن هنا تأتي الإشارة اللطيفة لأهمية العقل ودوره في نجاة الإنسان ، فالعلاقات الاجتماعية تحتاج إلى مرجعية العقل وإدارته ، فبه يستطيع تحليل المواقف المختلفة ، وبه يختار الأسلوب المناسب للتعامل مع كل موقف من خلال الحكمة والمداراة . ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (البقرة:269)
ويضع الإمام في الفقرة التالية القاعدة السلوكية الأولى في المجتمع الإسلامي ، وتنطلق هذه القاعدة من السنّة التغييرية القرآنية التي لا تتبدل ولا تتحول ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد:11)
فلكي تتغير علاقاتنا الاجتماعية للأفضل علينا أولا أن نغير نظراتنا لبعضنا البعض ، وحينئذ لن يقع بيننا التشاحن والتباغض والتباعد لأننا أسرة واحدة :
( أما عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك ، فتجعل كبيرهم بمنزلة والدك ، وتجعل صغيرهم بمنزلة ولدك ، وتجعل تربك بمنزلة أخيك ، فأي هؤلاء تحب أن تظلم ، وأي هؤلاء تحب أن تدعو عليه ، وأي هؤلاء تحب أن تهتك ستره ؟)
والإسلام واقعي يدرك أن للإنسان دوافع خيرة ونوازع شريرة ، وأنه لا يخلو من الصراع الداخلي الدائم بين الفجور والتقوى ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس:8) ، فالنفس قد تحدث الإنسان بأنه أفضل من الآخر المسلم ، وهذا الشعور بالتفوق والأفضلية يؤدي إلى التعالي على الآخرين وعدم الاكتراث بحقوقهم وعدم القدرة على الاعتذار لهم ، وكل هذا بالطبع يخلق شروخا وتصدعات في بنية العلاقات الاجتماعية ، قال الإمام الهادي ” من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه ” .
ولذا يضع الإمام السجاد عليه السلام القاعدة الثانية لعلاج هذه الحالة ، وذلك من خلال النظرة التربوية العميقة التي تبحث دائما عن عنصر الخيرية لدى الآخرين وتذكير النفس بعيوبها لتنشغل بها عما يبدو لها من عيوب الناس ، فعلمها بعيوبها علم حضوري يقيني ، أما علمها بعيوب الآخرين فهو علم حصولي يخالطه الشك ، فلتنشغل بيقينها عن شكها .
( وإن عرض لك إبليس لعنه الله بأن لك فضلا على أحد من أهل القبلة فانظر إن كان أكبر منك فقل : قد سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني ، وإن كان أصغر منك فقل : قد سبقته بالمعاصي والذنوب فهو خير مني ، وإن كان تربك فقل : أنا على يقين من ذنبي ومن شك في أمره ، فما لي أدع يقيني لشكي )
أما القاعدة الثالثة فتضع الرؤية السليمة للتعامل مع الجو الخارجي في حالتي المد والجزر ، فما تحصل عليه من شكر وثناء وتبجيل وتوقير وتعظيم ينبغي أن تعيد فضله لله ( وكم من ثناء جميل لست أهلا له نشرته ) ، أما ما تلاقيه من جفاء فابحث عن أسبابه في نفسك ، واتهمها دائما .
( وإن رأيت المسلمين يعظمونك ويوقرونك ويبجلونك فقل : هذا فضل أخذوا به ، وإن رأيت منهم جفاء وانقباضا فقل : هذا لذنب أحدثته )
إن هذا التوازن بين الداخل والخارج يوفر للإنسان حالة نفسية مستقرة ، ويجعله يعيش في سلام مع نفسه والآخرين ، وكما يقول الإمام في دعاء مكارم الآخرين ( ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها ، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها )
والنتيجة الطبيعية لاتباع هذه القواعد :
( فإنك إن فعلت ذلك سهل الله عليك عيشك ، وكثر أصدقاؤك ، وقل أعداؤك ، وفرحت بما يكون من برهم ولم تأسف على ما يكون من جفائهم )
وأخيرا لكي نكون من أكرم الناس على الناس ينبغي أن نحسن لهم ، كما ورد في دعاء مكارم الأخلاق ” وأجرِ للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمن ”
وكما يحسن التفضل يجمل التعفف ، فكلاهما يسهمان في جعل الإنسان كريما وعزيزا في قومه ومجتمعه.