الوثيقة المنسية في تشريعاتنا الدستورية
هي وثيقة من أقدم الوثائق الإسلامية التي تعرضت لموضوع حساس وذي علاقة مباشرة بحياة الناس بتفاصيل في غاية الروعة والإتقان.
هي وثيقة لو أنتجها أحد مفكري الغرب المهتمين بنفس الموضوع مثل جون لوك وروسو ومونتسكيو وغيرهم لحظيت بمكانة مرموقة في جامعاتنا العربية والإسلامية في التخصصات ذات العلاقة كالسياسة والقانون والاقتصاد والإدارة.
هي وثيقة تنبه لأهميتها أحد الشخصيات السياسية الهامة في عالمنا المعاصر، وهو بالمناسبة غير مسلم وغير عربي، ففي العام 2002 م وفي رسالته السنوية التي وجهها من خلال منظمة التنمية الاقتصادية والتعاون التابعة للأمم المتحدة، طلب السيد كوفي عنان الأمين العام للمنظمة الدولية، من حكومات دول العالم، وبالخصوص بلدان العالم الثالث، أن تعتمد هذه الوثيقة كدليل عمل لها في سياساتها تجاه شعوبها.
هي وثيقة تضع الأسس العامة للحكم الرشيد الذي يتصف ضمن ما يتصف به بالمشاركة والشفافية والمساءلة وحكم القانون والمساواة والفعالية والرؤية الاستراتيجية.
هي وثيقة تحدد وظائف الحكومة في أي بلد من البلدان بعبارات موجزة مكثفة: جباية خراجها ، وجهاد عدوها ، واستصلاح أهلها ، وعمارة بلادها .
وبحسب الوثيقة فإن الأولوية القصوى يجب أن تكون للتنمية في جميع المجالات وليس لتحصيل الضرائب والرسوم والغرامات: وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد ، ولم يستقم أمره إلا قليلاً.
كما تضع الوثيقة إطارا عاما يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم أيا كان دين المحكوم ومذهبه، فالحاكم يجب أن يتصف بالرحمة والمحبة واللطف والعفو والصفح ، فالحكم ابتلاء وتكليف لا وجاهة وتشريف : وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم ، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل ، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك . وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم .
وبكل واقعية تتحدث الوثيقة عن كيفية تفادي السقوط في فخ الكرسي والسلطة: وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهة أو مخيلة فانظر إلى عظم ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك.
وتحدد أن العدل أساس الملك: أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك ، فإنك إلا تفعل تظلم.
وأن التعيين في الوظائف العامة يجب أن يكون على أساس الجدارة والكفاءة لا الولاءات والمحسوبيات والواسطات، وأن الموظف يجب أن يخضع لفترة تجريبية: ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختباراً ، ولا تولهم محاباة وأثرة ، فإنهما ( أي المحاباة والأثرة) جماع من شعب الجور والخيانة ، وتوخ منهم أهل التجربة والحياء.
وأن كبار الموظفين يجب أن يحصلوا على رواتب مجزية تبعدهم عن سرقة المال العام والرشاوى: ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم ، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم ، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك .
وتتعامل الوثيقة مع الواقع كما هو، فالموظف العام مع كل الاحتياطات التي تؤخذ لصيانته من الانحراف كالاختيار الدقيق والراتب المجزي فإنه قد يقع في الحرام، ولذلك فلا بد من الرقابة الداخلية العلنية التي تدقق في أعماله، والرقابة الخارجية السرية يقوم بها أشخاص موثوقون تم اختيارهم بعناية، ويدعم ذلك نظام صارم للعقوبة المادية والمعنوية في حال اكتشاف حالات السرقة والفساد: ثم تفقد أعمالهم ، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم ، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية . وتحفظ من الأعوان ، فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا ، فبسطت عليه العقوبة في بدنه وأخذته بما أصاب من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة ، وقلدته عار التهمة.
والتفقد لا يكون فقط لتصيد الأخطاء، بل يكون أيضا لتصيد السلوك المتميز ومكافأته وتعزيزه، ومن هنا يأتي التأكيد على اللمسات الإيجابية البسيطة فضلا عن الكبيرة: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقده الوالدان من ولدهما ، ولا يتفاقمن في نفسك شئ قويتهم به . ولا تحقرن لطفا تعاهدتهم به وإن قل فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك . ولا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به ، وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه .
وتؤكد الوثيقة في أحد بنودها على مبدأ إداري هام مفاده أن المساواة بين غير المتساوين ظلم: ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء ، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة.
أما التحفيز فيكون عن طريق الثناء المتواصل في المحافل لمن يستحقه، وأن يحمل الثناء طابعا فرديا شخصيا لأن ذلك أوقع في النفس، وأن يذكر لكل فرد إنجازاته الشخصية غير مضمومة لإنجازات الآخرين حتى لا تضيع مع إنجازات الغير، ويجب إعطاء كل ذي حق حقه بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى: وواصل في حسن الثناء عليهم ، وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم . فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل إن شاء الله .
ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى ، ولا تضيفن بلاء امرئ إلى غيره ، ولا تقصرن به دون غاية بلائه ، ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً ، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً .
وتتطرق الوثيقة إلى السلطة القضائية ومواصفات القاضي: ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلة ، ولا يحصر من الفئ إلى الحق إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج ، وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشف الأمور ، وأصرمهم عند اتضاح الحكم . ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء . وأولئك قليل .
وتحذر الوثيقة الحاكم من البطانة والحاشية أيما تحذير: وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مؤونة في الرخاء ، وأقل معونة له في البلاء ، وأكره للإنصاف ، وأسأل بالإلحاف ، وأقل شكرا عند الاعطاء ، وأبطأ عذرا عند المنع ، وأضعف صبرا عند ملمات الدهر ، من أهل الخاصة .
كما تحذره من التقارير المضللة ومن السعاة الواشين: وليكن أبعد رعيتك منك وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعائب الناس ، فإن في الناس عيوبا الوالي أحق من سترها .
إذن فليكن دائما مع العامة، وليستهدف ما يحقق رضا الأغلبية في قراراته: وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة ، فليكن صغوك لهم وميلك معهم .
وعليه أن يقرب منه الذين يصدحون بالحق وإن كان مرا: ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك .
وزيادة على ذلك عليه أن يعودهم على عدم إطرائه وتمجيده: فإن كثرة الإطراء تُحدث الزهوة ، وتدني من الغِرَّة .
والوثيقة تنظر للمجتمع ككل متكامل يعيش حالة اعتمادية على بعضه، وفي نفس الوقت تشدد على ضرورة الاهتمام بالطبقة الفقيرة التي تعاني غالبا من التهميش في مجتمعاتنا: ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم ، والمساكين والمحتاجين ، وأهل البؤسى والزمنى ( أي المرضى ) ، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً .
وتدعو الوثيقة الحاكم إلى تبني سياسة الباب المفتوح دون الحاجة إلى جيش من الحرس والحُجًاب: واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ لهم فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متتعتع ، فإني سمعت رسول الله يقول في غير موطن: لن تقدس أمة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع .
وتنصح الوثيقة الحاكم نصيحة بالغة إذ تقول: وإياك والمن على رعيتك بإحسانك ، أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق ، والخلف يوجب المقت عند الله والناس.
هذا بعض ما ورد في الوثيقة، والكلام فيها وعنها طويل وطويل، وهي تحتاج بالفعل لشراح قانونيين يستنبطون معانيها العميقة ويكشفون دلالاتها المتكاثرة.
بقي أن أقول: هذه الوثيقة هي عهد الإمام علي عليه السلام لمالك بن الحارث الأشتر النخعي حين ولاه مصر، ومالك الأشتر هو أحد القادة في جيش الإمام، وهو عربي من قبيلة يمنية معروفة، وهو مدفون بمصر في بلدة الخانكة في ضواحي القاهرة، ويسميه المصريون: الشيخ العجمي، ولا أدري لماذا يسمونه بالعجمي رغم أنه عربي أصيل!!
ترى: هل سنعيد قراءة هذه الوثيقة ونعطيها مكانتها التي تستحق بين تراثنا الذي يهتم بالأحكام السلطانية، أم ستبقى في دائرة الإهمال تنتظر قوما آخرين أكثر استفاقة منا؟!