عابرون للمذاهب
في الوقت الذي ينشغل فيه الغرب بالما بعديات: ما بعد الحداثة، وما بعد عصر المعلومات، وأمثالها، ومقولات النهايات: نهاية التاريخ، ونهاية الأيديولوجيا، ونهاية المكان، وغيرها؛ لا زلنا نحن في العالم الإسلامي مشغوفين بالما قبليات، مفتونين بخلافات السلف وصراعاتهم. ننام على وقع حوافر أقلامهم وهي تخوض المعارك الكلامية الشرسة ضد الآخر المختلف معها، تسلب منه كل حسن، وتنسب إليه كل قبيح. ثم نصحو مستنشقين النقع المثار الذي تحول عندنا لطول الألفة إلى نسيم عليل، حيث تعطلت حاسة الشم أو ارتبكت شعيراتها، وتشابهت عليها الروائح.
لا أدري سر افتتاننا بالصخب والصراخ والغبار، ولماذا نعشق الأصوات الحادة ذات المزاج المتوتر، والتي لا تجيد سوى العزف المنفرد على تغييب الوعي واستحضار الغرائز؟! لماذا لا تستوقفنا أو تجلب انتباهنا الأصوات ذات الرؤى المستقبلية والفعل الحضاري؟!
ليس الحديث عن الما بعديات والما قبليات حديثا عن الماضي والحاضر بالمفهوم الزمني الساكن، بل هو حديث عن القدرة على تجاوز الزمن واستشراف المستقبل أو الإصابة بالشلل الرباعي عند مقطع زمني معين. وبناء على هذا، فإن الإنسان قد يعيش في الحاضر ولكنه في واقعه ما قبلي؛ وقد يكون عاش في الماضي ولكنه في عطائه وسيرته ما بعدي.
سأضرب مثالا بعالِمَين جليلين استطاعا قبل التقريب بين المذاهب وقبل حوار المذاهب أن يؤسسا لمنهج هو في غاية المتانة والرصانة في المسألة المذهبية. المنهج يقوم على التفاعل الجاد مع الآخر المذهبي من خلال حضور درسه ومجالسه، والتعرف على تراثه من خلاله هو، لا من خلال مناوئيه أو وسطاء آخرين، فما دام التعرف المباشر ممكنا، فلماذا نستبدل به غيره؟!
العالم الأول هو الشيخ محمد بن مكي الجزيني العاملي (734-786 هـ) والمعروف بالشهيد الأول. هذا العالم لم تقتصر دراسته على الحضور عند علماء مذهبه في جبل عامل والحلة وكربلاء والكاظمَين، بل إنه – وبعد وصوله إلى أعلى المراتب العلمية – سافر للدراسة إلى الحواضر العلمية للمذاهب الأخرى في زمانه، مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس والشام وبغداد ومصر. يقول في إجازته لابن الخازن الحائري مبينا هذا الأمر: "وأما مصنفات العامة ومروياتهم فاني أروي عن نحو من أربعين شيخا من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام، فرويتُ صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم إلى البخاري، وكذا صحيح مسلم ومسند أبي داود وجامع الترمذي ومسند أحمد وموطأ مالك ومسند الدارقطني ومسند ابن ماجة والمستدرك على الصحيحين للحاكم أبي عبد الله النيسابوري إلى غير ذلك مما لو ذكرته لطال الخطب.
وقرأتُ الشاطبية على جماعة منهم قاضي قضاة مصر برهان الدين إبراهيم بن جماعة، عن جده بدر الدين، عن ابن قاري مصحف المذهب، عن الشاطبي الناظم رحمه الله".
وهكذا تعرف الشهيد الأول على المذاهب الأخرى عن طريق الدراسة على يد شيوخها وعلمائها، والاحتكاك المباشر بأصحابها.
العالم الثاني هو الشيخ زين الدين الجُبعي العاملي (911-965 هـ) والمعروف بالشهيد الثاني، والذي لم يكتفِ - رغم بلوغه مرتبة الاجتهاد والفقاهة - بالاقتصار على مذهب الإمامية، بل كان يرى بأن الاجتهاد في الفقه الجعفري لا يكتمل إلا بالاطلاع على الفقه السني. فرحل إلى دمشق، ثم إلى مصر ودرس في الأزهر على كبار علماء المذاهب الأربعة. يقول عن دراسته في مصر: "رحلت إلى مصر في أول سنة 942 لتحصيل ما أمكن من العلوم، واجتمعت في تلك السفرة بجماعة كثيرة من الأفاضل، فأول اجتماعي بالشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقي الحنفي. وقرأت عليه جملة من الصحيحين وأجازني في روايتهما مع ما يجوز له روايته، واشتغلت في مصر أيضاً على جماعة منهم الشيخ شهاب الدين أحمد الرملي الشافعي. قرأت عليه منهاج النووي في الفقه، ومختصر الأصول لابن الحاجب، وشرح العضدي، مع مطالعة حواشيه ...، ومنهم: الشيخ شهاب الدين بن النجار الحنبلي، قرأت عليه جميع شرح الشافية للجاربردي، وجميع شرح الخزرجية في المعروض والقوافي للشيخ زكريا الأنصاري، وسمعت عليه كتباً كثيرة في الفنون والحديث، منها الصحيحان، وأجازني جميع ما قرأت وسمعت، وما يجوز له روايته. ...، ومنهم: الشيخ المحقق ناصر الدين اللقايي المالكي، محقق الوقت، وفاضل تلك البلدة، لم أر في الديار المصرية أفضل منه في العلوم العقلية والعربية، سمعت عليه البيضاوي في التفسير، وغيره من الفنون".
ومن خلال هذا النص نستطيع أن نكتشف بعدا هاما في منهجية الشيخين الشهيدين. أعني به التجرد المعرفي الذي يسعى وراء الحقيقة من أجل الحقيقة. فهما لم يرتحلا لتلك الديار من أجل مناطحة الآخر أو مناصحته، بل لاكتشافه ومعرفته عن قرب والاستماع منه والتفاعل معه. فكانت النتيجة هي الاحترام المتبادل والعرفان بالفضل لأهل الفضل. وكانت النتيجة أيضا أن تصدى الشهيد الثاني لتدريس الفقه على المذاهب الخمسة في المدرسة النورية في بعلبك.
لقد استطاع هذان العالمان أن ينتميا بالفعل إلى عصر الما بعديات، في حين نلحظ انتماء كثير من خطابات اليوم إلى الما قبليات، حيث الشحن الطائفي البغيض ولغة التحريض على الكراهية والممارسات العنفية ضد الآخر التي تصل إلى حد التصفية الجسدية.
ومن المؤسف حقا أن هذين العالمين انتهت حياتهما بشكل مأساوي حيث قتلا – وهما الداعيان للألفة والوحدة - بسبب الوشايات الطائفية والتعصب المقيت.
أخيرا نحن أمام سؤال مصيري: إلى أي عصر نريد أن ننتمي؛ لما قبل أم لما بعد؟ الجواب يحدد المستقبل.