مشكلتنا مع غاندي
" إن ما أرغب في إنجازه – أو قل إن ما ناضلت وتألمت توقا إلى إنجازه خلال هذه السنوات الثلاثين – هو تحقيق الذات، أن أرى الله وجها لوجه ".
" أما بالنسبة إلي فالحقيقة هي المبدأ السيد، الذي يشمل مبادئ أخرى عديدة، وهذه الحقيقة ليست هي الصدق في الكلمة فحسب، ولكنها الصدق في الفكر أيضا، وليست هي الحقيقة النسبية التي نتصورها فحسب، بل الحقيقة المطلقة، المبدأ الأزلي، يعني الله أيضا. إن ثمة تعريفات لا حصر لها لله، لأن مظاهره لا حصر لها. إنها تغمرني بالدهش والذعر، وإنها لتحيرني لحظة. ولكني أعبد الله بوصفه الحقيقة لا غير."
" كانت أمثلة عديدة أقنعتني بأن الله ينقذ إنقاذا مطلقا كل امرئ يعمر نفسه حافز طاهر ".
" وأنا أدري أن لقولي: "أنقذني الله" معنى أعمق عندي اليوم، ومع ذلك فأنا أشعر أني لما أستوعب كامل معناها. إن الخبرة الأخصب تستطيع وحدها أن تمكنني من التحقق بفهم أوفى. ولكن في التجارب التي واجهتني – في حياتي الروحية وكمحام، وفي إدارة المؤسسات، وفي دنيا السياسة – أستطيع أن أقول إن الله قد أنقذني. فحين ينقطع الرجاء كله ، وحين يعجز المسعفون وتعز السلوى، أجد أن العون يهرع إلي بطريقة ما، ومن مكان لا أدريه. إن الابتهال والتعبد والصلاة ليست خرافة. إنها أعمال أكثر واقعية من أعمال الأكل والشرب والقعود والمشي".
الكلمات السابقة هي كلمات للمهاتما غاندي الزعيم الهندي الذي طبقت شهرته الآفاق. استللت هذه الكلمات من كتابه (قصة تجاربي مع الحقيقة) الذي نقله إلى العربية منير البعلبكي.
ربما يفاجأ البعض، بل الكثير ممن لم يقرؤوا غاندي، من كلماته هذه، لأن الصورة الذهنية النمطية في الذاكرة الجمعية لأغلبنا عن الهندوس – ومنهم غاندي - أنهم أناس يعبدون البقر. وهي صورة أخذناها مشافهة من أناس آخرين وتقبلناها دون نقاش، وربما نقلناها لآخرين أيضا فتلقفوها من غير فحص ومساءلة، برغم أننا نعيش عصر الانفجار المعرفي والمعلومة المتاحة على بعد ضغطة زر.
حديثي هنا ليس عن الهندوس والهندوسية، ولا حتى عن غاندي الذي كنت قد كتبت عنه وعن نضاله السلمي أكثر من مقال. حديثي عن الخلل المنهجي المزمن الذي نعاني منه في اكتشاف الآخر.
اكتشاف الآخر أصعب وأكثر تعقيدا من اكتشاف قارة عذراء، لأن الآخر ليس كائنا بسيطا. إنه – ومهما كانت درجة بساطته – مجموعة من هويات ثقافية تتفاعل مع بعضها لتشكل في الأخير كيانا ذا ملامح معينة يمكن بها تمييزه عن غيره نوع تمييز. وبالتالي فإن اكتشافه يحتاج إلى التسلح بأدوات معرفية معينة لعل أولها الاستعداد لقراءة الآخر من داخله لا من خارجه، إذ كثيرا ما نحاول التبسيط واختصار الطريق بالبحث عن صورة جاهزة للآخر تريحنا من عناء إنشاء وتكوين صورة حديثة له. وهو ما يوقعنا في خطأ منهجي قاتل، حيث المقدمات الفاسدة لا يمكن أن تُؤتي سوى نتائج فاسدة أيضا.
الاستعداد لقراءة الآخر بتجرد ومن دون مسبقات فكرية أو صورة نمطية جاهزة هو الشرط الأول لاكتشاف الآخر ومن ثم التفاعل معه تأثرا وتأثيرا. الشرط الثاني هو الاقتراب منه والانفتاح عليه بُغية النفاذ إلى شخصيته والتعرف عليه بعمق. ويقتضي هذا الإنصات له وقراءة مجمل منتجه الثقافي الفكري والديني والسياسي والاجتماعي وما يتصل بذلك من أعراف ونظم وتقاليد وعادات قراءة استكشافية. الشرط الثالث هو معرفة الظروف المحيطة والمؤثرات الخارجية التي ساهمت في تكوين شخصية الآخر حتى نستطيع فهمه بشكل أدق وأعمق. بالطبع هناك شروط أخرى، لكنني سأكتفي بهذه الثلاثة.
إننا وللأسف نعيش في كانتونات فكرية ودينية ومذهبية مغلقة لا تنفتح حتى على الآخر داخل نفس الدائرة، ناهيك عن الآخر صاحب المشتركات الأقل. ولذا فإننا لم نستطع الإفادة مما تتيحه لنا وسائل الاتصال الحديثة فيما يحقق التعارف المطلوب بيننا، وبيننا وبين الآخر، بل لم تزدنا تلك الوسائل إلا تشظيا وتشرذما وتشتتا. وما روائح التعصب الكريهة المنبعثة من قمامات الانترنت وغيرها إلا خير شاهد على الوضع المأزوم في مجتمعاتنا العصية على الانفتاح حتى على ذاتها.
مشكلتنا مع غاندي هي مشكلتنا مع كل مختلف عنا، نصر على حبسه في صندوق اخترعناه بحسب المواصفات والمقاييس المتوارثة، والتي انتهت صلاحيتها، بل لم تكن صالحة أصلا.